Jump to content
Baghdadee بغدادي

الجندي الغارق في التفكير


abusadiq

Recommended Posts

 

الجندي الغارق في التفكير

 

خالد القشطيني

 

مررت في حياتي الفنية بمئات التماثيل، كان منها ما رأيته أو عملته أو قرأت عنه. رأيت تمثال فينوس للإغريق وتمثال ديفد لميخائيل انجيلو، وتمثال القبلة لرودان، وتمثال السجين السياسي لجواد سليم، ولكن لم يثر تفكيري ويعلق في ذهني كتمثال الجندي الغارق في التفكيرBrooding Soldier الشاخص الى ارتفاع عدة أمتار فوق هضبة من ساحة معركة الفلاندرز في الحرب العظمى التي قتل فيها ما يقرب من المليون شاب. يقف هذا الجندي وهو يحتضن بندقيته ويتكئ بحنكه على فوهتها يفكر ويتأمل بوجه مكتئب.

 

لقد رأينا عشرات التماثيل التي تصور شجاعة الجندي وبطولته وانتصاراته. كلها كذب وزيف. لم أجد تمثالا يعبر بصدق عن مشاعر الجندي قبيل المعركة أو بعدها كهذا التمثال.

 

ما الذي يدور في ذهن هذا الجندي الشاب وقد أمسك ببندقيته على مشارف المعركة؟ لماذا يطأطئ برأسه ويحدق في الأرض تحت قدميه؟ أتراه يفكر بمقتله الوشيك؟ ما الذي سيشعر به عندما ستخترق رصاصة صدره، أو تطيش شظية قنبلة برأسه أو تمزق بطنه وأمعاءه حربة لئيمة في ذلك الخندق من خنادق الموت عندما ينبغي عليه ان يقتحمه بدوي بوق الهجوم؟ هل سيكون هناك من يخف لإسعافه؟.

 

ما الذي يفكر به البرودنغ سولدجر، وقد أسند رأسه على بندقيته؟ كيف سيقتضي عليه أن يحمل حربته ويمزق بها بطن جندي ألماني؟ شاب مثله؟ لا يسحب الحربة الدامية منه حتى يواجه حربة جندي ألماني آخر يباغته بطعنة ماضية من الخلف. أي صرخة سيصرخ؟

 

ما الذي يفكر به؟ أتراه يفكر بزوجته أو حبيبته؟ اين هي الآن؟ ماذا تفعل؟ كيف تقضي وقتها؟ أتراها في أحضان عشيق حظي بها رجل لم يتطوع للحرب؟

 

أترى هذا الجندي المكتئب يتذكر والدته؟ لم تصله منها رسالة منذ أشهر. لقد نسيته. أتراها هي أيضا وقعت في أحضان عاشق آخر لم يتطوع لنداء الواجب ويلتحق بالمعركة؟

 

لماذا أسند حنكه على فوهة بندقيته؟ أتراه يفكر بالانتحار خلاصا من كل هذه الأفكار الكئيبة وهروبا مما سيواجهه في خنادق العدو؟ أيليق به أن يهرب من المعركة؟ ولكن الى أين وكيف والضابط المسؤول عنه يحمل مسدسه موجها ضد كل من يتخاذل؟

 

أتراهم سيكتبون اسمه على قوس النصر بعد أن يموت؟ أسيقف والداه في استعراض النصر ويصفقان ويهتفان والدموع تنساب من أعينهما؟ يذهبان لقراءة اسم ابنهما على سجل الشرف منحوتا على الصخر. ولكنه لن يكون هناك ليقرأ اسمه. ماذا إذا لم يكسبوا النصر في الأخير؟ أي ضياع سيكون كل هذا الجهد والدمار والتضحية!

 

ما الذي يفكر به البرودنغ سولدجر؟ وكل جندي في ليلة المعركة يتحول الى برودنغ سولدجر. يفكر ويتأمل ويتذكر والخوف والقلق والاكتئاب يجتاح ضميره وجوارحه. ينظر في وجوه رفاقه ويتأمل، من منهم سيعود ومن ستمزق أحشاءه حراب العدو. و كل واحد منهم يفكر ويتأمل ويتذكر.

 

تمثال البرودنغ سولدجر خير تجسيم على الصخر لعالمنا الغارق في الحروب والعنف.

Link to comment
Share on other sites

Join the conversation

You can post now and register later. If you have an account, sign in now to post with your account.

Guest
Reply to this topic...

×   Pasted as rich text.   Paste as plain text instead

  Only 75 emoji are allowed.

×   Your link has been automatically embedded.   Display as a link instead

×   Your previous content has been restored.   Clear editor

×   You cannot paste images directly. Upload or insert images from URL.

Loading...
×
×
  • Create New...