Jump to content
Baghdadee بغدادي

الأرهاب الى اين


Recommended Posts

المجد البعثي..طفوف وأحزان بالحلة

 

رشيد الخيُّون GMT 21:00:00 2005 الثلائاء 1 مارس

الحلة، وإن توالت الأسماء عليها- الجامعين، في العهدين الأموي والعباسي، والحلة منذ حل فيها بني أسد وشيدوا إمارتهم المزيدية- لكنها تبقى وفيّة لاسمها الأول بابل، والمنحوت من (باب ايلو) أي باب الله. فقلما يخلو بيت من بيوت أهل الحلة، بعد تمصيرها (495هـ) على يد سيف الدولة صدقة بن دُبيس الأسدي، من حَجرة بابلية.

كان الحلّيون، أو الحلاويون، منذ فتحت أسواق الآثار العالمية أبوابها، وما يزالون، ينبشون الأرض بحثاً عن تاريخ غطته أتربة الدهور، ولم تبقِ من الجنائن المعلقة، ولا من برج بابل غير صدىً خافت لصوت كان مدوياً في الآفاق. أخذ الحليون يقلدون، من دون تكلف، صنعة أجدادهم، ينحتون من طين شاطئ الفرات تماثيلَ وأختاماً. لا يشعرك هذا الاختلاق بالغش والتزوير، بقدر ما يشعرك باحتضان التاريخ، والرزق الحلال من بركته.

منذ القِدم وأهل الحلة "كلهم إمامية اثنا عشرية، ولهم مقام يسمونه مشهد صاحب الزمان". هكذا ورد عند ابن بطوطة وابن جبير، وعند كل مَنْ تصدى لأحوال البلدان. فمِن إمامية الحلة ابن طاوس صاحب فتوى العدالة "سلطان كافر عادل أفضل من سلطان مسلم جائر"، أي العدل، لا الدين ولا الأيديولوجية، أساس الملك. وتلميذه العلامة جمال الدين الحلي، الذي اقنع حفيد هولاكو السلطان خدابنده بالتحول إلى المذهب الإمامي، بعد مناظرة في مجلسه مع فقيه وقاض شافعي، لم يتسخدم فيها سيفاً ولا فتوى. ويُحسب للعلامة الحلي تكريس الاجتهاد في الفقه الشيعي عامة، وهذا ما يثبت أن أُصول هذا المذهب أُصول عراقية لا إيرانية، مثلما يدعي المدعون. وقيل اقتبست الدولة العراقية ألوان علمها الأول من بيت شاعر الحلة، في الحقبة المغولية، صفي الدين الحلي:

بيض صنائعنا سود وقائعنا

خضر مرابعنا حمر مواضينا

خلا ذلك فالحلة واحة ثقافية، ظهرت فيها الصحف الأولى، مثل صحيفة "الفرات". ويكفي زمنها المتأخر أنها أنجبت ناقداً وأديباً بحجم علي جواد الطاهر، وأثارياً كبيراً بحجم طه باقر. ولشيوخ الحلة من آل الماشطة شأنهم في فهم المستجدات والتفقه فيها، فكان للشيخ عبد الكريم الماشطة كتاب بعنوان "الماركسية لا تتعارض مع الدين ولا مع القومية" (1959). وقد صاحبَ هذه الجدية في الفضل والعلم والأدب تراث في الفكاهة، ما زال العراقيون يستمدون منها فكاهتهم، والتغلب على أحزانهم. تارة بقصص الباقلاء الشهيرة، وتارة أخرى بتداول الطرائف حول المطرب الجدير سعدي الحلي، وهم يقصدون صدام حسين. فكم كان لهذا الحلي من فضل في التخفيف عن صدور العراقيين أوان ضائقتهم، وكم كان له من الفضل في حمايتهم من أحكام سجن وإعدام، عندما جعلوه محلاً لتورية ما لا يقدرون على الإفصاح به. وقيل لما شعرت السلطة أن المقصود بهذه الطرائف المثالب هو صدام التكريتي، لا سعدي الحلي، حرمت تداولها. حرمت الضحك والبهجة، مثلما حرمت البكاء على قتلى الحروب والمقاصل والاغتيالات. وهكذا بلغ الحصار أشده في اظهار الشماعر فرحاً أو حزناً.

بطبيعة الحال، القتلة لا ينظرون في تاريخ المدن، ولا يعيرون أهمية لفضلها، ولا يطربون لمزاج بيئتها وبشرها. كانت فاجعة الحلة الأخيرة أكبر من تدبير صبي، مرشده إمام مسجد المحاويل، حسب الأخبار الملتقطة من هنا وهناك، بل الهول أنها متصلة بتصفيات عرقية. كلما حاولنا النأي عن الخوض فيها، بعداً من لعبة الطائفية اللّعينة، نجد أنفسنا أمام طفوف لا طف واحد تعاد ذكراه في عاشوراء من كل عام. قال مزيد الخشكري في هذه الطفوف يوم تعرضت الأهوار لمثلها زمن الناصر لدين الله (ت622هـ) العباسي:

فكأنما الهور الطفوف وأهله الـ

شهـداء وابن معيـة ابن زياد

نحن أمام طفوف تجوب وسط وجنوب العراق، يمارس فيها قتل متعمد على الهوية المذهبية. منفذوها جزارون محترفون، اتخذوا من بساتين اللطيفية مسلخاً ومقبرة رؤوس منزوعة من أبدانها. أكد لنا هؤلاء أن عصر جعفر المتوكل ووزيره ابن خاقان عاد مرة أخرى. عاد هذه المرة عن طريق عصابة لا خلافة. فالخلافة إنهارت من دون عودة، وما المجازر الطفوف الحالية إلا حُشَاشتها. فمثلما كان يُسئل زائر ضريح الإمام الحسين، ويؤخذ ويُذبح، أخذ زعماء مثلث الموت يسألون ركاب السيارات عن مذاهبهم، ويطلبون منهم شتم علي بن أبي طالب والحسين بن علي. فالشيعة عند السوداني من آل الترابي، وعند الأردني من آل الزرقاوي، وعند السعودي من آل بن لادن، وعند المصري من آل القرضاوي لا حق لهم في الحياة، ولا حق لهم في الدولة، إنهم مجرد مشروع قتل، تُحش رقابهم كحش نبات الأرض الزائد.

يشعر زماننا بالخجل، وقد بلغ العام الخامس بعد الألفين، ويجري فيه الحديث عن خلاف سُنَّي شيعي بالخناجر وزنانير المتفجرات، ويطلب فيه البراءة من عقيدة أو عاطفة، ليس لها تاريخ مؤذي. فأقصى مؤذياتها بكاء وتسويط وتطبير يتحمله صاحبه. عقيدة فرشت نفسها على طين العراق، وتجاورت مع عقائده الأخرى. فلماذا كل هذا الجور وهذه القسوة ضدها؟

قسوة لا يتحمل وزرها أتباع الإمامين أبي حنيفة والشافعي. فهذان الإمامان زرعا بذرة المودة، وليس في أحكامهما قتل أهل دين ومذهب. وأبو حنيفة أول الخارجين على السلفية، فهو صاحب رأي، مقامه بين الفلاسفة، وجهابذة العلم الديني والدنيوي، لا بين مجاميع المتعصبين، أمثال عبد الله الجنابي، إذا رأيت وجوههم وليت من قسوتها هرباً.

أين زمن هؤلاء من زمن وفد تكية الخالدية السُنَّي، المتضامن مع شيعة العراق ضد طرف سُنَّي آخر جار عليهم بالقتل والسلب، وأَبْقر بطون نسائهم، وأهان أضرحتهم. أين هيئة علماء المسلمين من كلمة الشيخ الجليل أمجد الزهاوي ضد غارات السلفيين على السماوة وكربلاء والنجف: "يجب تأديبهم بكل صورة". أين الهيئة من فتوى علماء سُنَّة العراق في قتال مَنْ اعتدى وجار على مواطنيهم الشيعة، القائلة "نعم يجب قتالهم والحالة هذه"؟ وشبح السلفية اليوم يجوب بمتفجراته أرض الوسط والجنوب.

ليس هيئة علماء المسلمين أجل وأعلم من مفتيي تلك الفتوى، وهم نواب الإمام أبي حنيفة النعمان، الشيوخ الأفاضل: عبد الوهاب النائب، وعبد الملك الشواف، وإبراهيم الرواي، وخضر القاضي، ومنير القاضي، وعبد الجليل الجميل، وطه الراوي، ونعمان الأعظمي، وعلي القرداغي، وأمجد الزهاوي، ومحمد رشيد الشيخ داوود، وخليل حسن النقي، وبهاء الدين النقشبندي، وأحمد الراوي، ومحمد رؤوف (الوردي، لمحات اجتماعية، عن جريدة الاستقلال 1922).

كان هذا موقف رجال الدين السُنَّة، صاحَبه موقف رجال السياسة والعشائر السُنَّة، من الوجهاء والشيوخ. بينهم مولود مخلص، وسعيد الحاج ثابت، وعجيل الياور، وثابت عبد النور، وعبد الله آل رئيس العلماء، ومحمد أغا. وتوجه الجميع إلى كربلاء معلنين موقفهم الديني والوطني والإنساني الصريح ضد عصابات القتل القادمة من الجزيرة. ولم يثن هؤلاء تخلف السيد محمود شكري الآلوسي وحمدي الأعظمي وقاسم المفتي عن الوفد وعن التضامن. فكان للآلوسي رأي مؤيد للسلفيين، وثقته مجلة الشيخ محمد رشيد رضا "المنار".

مرَ قبل أيام عاشوراء مدمى بمأساة مركبة، جمعت بين صدى صهيل خيول ابن زياد، وعمر بن سعد وبين أصوات متفجرات البعثيين والسلفيين، أو إتحاد الأنصار والمهاجرين الجدد. مجموعات دُربت ببلاد الشام. بدا المشهد وكأنه من مشاهد صفين، وما كان بين أهل الشام بزعامة معاوية وأهل العراق بزعامة الإمام علي. كم كان الزمن الفاصل بين صفين والحلة خالياً من حدث رائع يجلي عن زمننا قذارة الضغينة، التي لا تنفع معها ليونة دين، ولا حصافة إمام، ولا حداثة علم. فهل ستفعلها هيئة علماء المسلمين وتعلن مقتها وحربها ضد طفوف الحلة والنجف وبغداد، وتُجدد الاجتماع بتكية الخالدية؟ هل ستفعلها وتضرب سُّرداقاً لها في أرض المجزرة وسط الحلة؟ هل ستفعلها وتتبرأ من قسوة ودموية البعثيين، ولا تعارض إجتثاث مثل أحفاد ابن زياد ومرجانة؟ فهاهم وجهاء الشيعة، بعد فوزهم، يمدون اليد، ولا يرغبون باستحواذ في السلطة، ولا استبعاد لشركاء في الأرض والوطن والتاريخ، يريدون الأمن والأمان، ورزقاً زكته مياه الرافدين، ودرته أرض السواد.

طفوف الحلة وأحزانها من الهول أن اختلطت فيها جثث الأجناس، النساء والرجال، البنات والصبيان، الأطفال والشيوخ، الأغنياء والفقراء. إنه مجتمع السوق وما يحويه من طبقات البشر. تكومت اللحوم على اللحوم واختلطت العظام بالعظام، و وقفت الأمهات أمام تل من أيادٍ وأرجل، يذكر بمشهد من مشاهد القبور الجماعية، يوم ظهرت إحدى الأمهات تحمل ذراع ابنها تحاول جمعها ببقية جسده المُفرق في الطين. وعندما سألها الصحفي وكيف عرفتي أنها ذراع ابنك؟ قالت: عرفتها من ردن قميصه. فاق عدد قتلى الحلة المئة، وهو يقترب من عدد وجبة واحدة من وجبات المعدومين الأسبوعية في سجون البعث. لا قيمة لهذا العدد عند أمين الجامعة العربية عمرو موسى، ولا قيمة له عند تنظيم القوميين العرب، فزعامتهم بيد معن بشور، ولا قيمة له عند مقاول المقالات فهمي هويدي وأضرابه.

تاريخ طويل والأضرحة بالعراق مشرعة الأبواب، والمساجد والكنائس والمعابد لا تغلق بوجوه المصلين والزائرين. لا مسلم يتعدى على مسيحي أو يهودي، ولا صابئي أو أيزيدي يساهر خوفاً وقلقاً على دينه وحياته. ولا يتجاوز سُنَّي على عزاء شيعي، ولا يفسد شيعي مولداً أو ذكراً سُنَّياً، إلا ماكانت تسعى إليه الدولة. فالفِرقة من ديدنها لا ديدن الناس، لا تخرج إلى طبقاتهم وطباعهم، ولا يؤثر ميلها الطائفي أو الديني في قلوبهم.

البعثيون وحدهم تمكنوا من جعل الخلاف في الأذان، أو مواعيد الأعياد، خلاف دماء وسيوف. وحدهم أفزعوا السائرين في مواكب عاشوراء راكبين وراجلين. وهي إذا نظروا لها وجدوها تاريخاً من العرف والعادة والفن. وبدلاً من المساهمة في تشذيبها والمساعدة في دعمها، مثلما تدعم الحكومات تراثها الشعبي، تقدموا لقمعها في سلطتهم، ورشقوها بالديناميت الحارق في زمن معارضتهم.

ليس هناك أضعف وأرق من البكائيين، والشيعة قوم بكائون. يعتذرون لجريمة من جرائم التاريخ لم يقترفونها. نفذت في طفل رضيع وفي صبي تخيلوه مذبوحاً في زفة عرسه. أجد في عاشوراء ثقافة اعتذار لايجيدها غير أهل القلوب اللينة. فعلام تحرق سُّرادق الباكين وهم يألفونها منذ أربعة عشر قرناً؟ يقام فيها حزن نبيل، لا يعطل دولة ولا يلغي ديناً ولا يتجاوز على مذهب. ومن فوائد هذا الإيلاف السنوي إلهاء الناس عن مصائبهم، والزيادة في بركة السوق، والجائع وابن السبيل يجد فيه طعاماً وشراباً من دون حرج، ناهيك عن صناعة الشعر والأدب والفن، وإلفة الاجتماع. يعلم العارفون، أن ممارسة هذه المراسم في أرض العراق متصلة بحزن نبيل قديم، منذ سومر وبابل، حتى شاعت في كنائسه بأحزان مريم العذراء وآلامها السبعة، وسرت في حسينياته وتكاياه الصوفية بعبرات زينب الحوراء. بالعراق خصوصاً يحضر المديح الحسيني في التكية أو الذكر القادري السُنَّي وفي المجلس الحسيني الشيعي على السواء. يُقرأ ما نُظم على لسان الحسين، وهو يحاول تذكير جيش ابن زياد بفضله:

خيرة النـاس من الدنيا أبي

بعد جدي وأنا ابن الخيرتين

والـدي شمس وأمـي قمر

وأنا الكوكب وابـن النيرين

فضة قـد خلصت من ذهب

وأنـا الفضة وابـن الذهبين

ليس لنا الموافقة على إباحة الجامعات والطرقات والدوائر لمواكب اللطم والتطبير والتسويط. وليس لنا الموافقة على مشاهد الدماء في الساحات العامة، بل نقف مع ادامة التعبير عن هذا الحزن الشعبي بمواكب بابلية، يتقدم فيها الشعر والخطابة، ووحدة الملبس والرايات. لكن لا أجد بين أهل هذا المذهب مَنْ تجاوز على صحيفة كتبت ناقدة تلك الممارسة، أو هُدد كاتب مقالة لا يجد في هذه الممارسة ظاهرة حضارية. نعلم أن شيوخاً كباراً في المذهب حاولوا تشذيب وتهذيب التعبير عن هذا الحزن المزمن، ومازالوا يحاولون.

برع البعثيون بأساليب القتل، مثلما برعوا بأساليب الهزيمة، فصيدهم لا يحتاج إلى شجاعة. وهل يحتاج شجاعة قتل المصطفين أمام مخبز؟ وهل يحتاج شجاعة ترك سيارة مفخخة وسط السوق؟ أو اعتراض مسافرين، لا يحملون غير أمتعتهم ونواياهم. يدرك البعثيون أن لا شيعة العراق سيصدقون أن ما يجري ضدهم ضغينة مذهبية عامة. مثلما لم يصدق المسيحيون العراقيون أن تفجير كنائسهم، وقتل شبابهم هو ضغينة إسلامية. وكذلك لم يُخذل الصابئة المندائيون ولا الأيزيديون ولا اليهود من وقفة مواطنيهم المسلمين معهم، عندما تعرضوا إلى تجاوز على أموالهم وأرواحهم.

فاجعة الحلة تدبير بعثي وخبرة سلفية، مُهد بشعار لا شيعة بعد اليوم. وهي واحدة من مسلسل الإصرار على خلق فتنة طائفية، تجاوز العراقيون خطرها، وتحصنوا منها بسور صيني. إنه النزع الأخير في أمل العودة إلى السلطة، أو بداية النهاية لحقبة سوداء، كلفت ما كلفت من الأرواح والأموال. ولعلها تكشف لأصحاب الوهم نذالة الوسيلة والغاية في أمة عربية واحدة أودولة سلفية.

 

r_alkhayoun@hotmail.com

Link to comment
Share on other sites

Join the conversation

You can post now and register later. If you have an account, sign in now to post with your account.

Guest
Reply to this topic...

×   Pasted as rich text.   Paste as plain text instead

  Only 75 emoji are allowed.

×   Your link has been automatically embedded.   Display as a link instead

×   Your previous content has been restored.   Clear editor

×   You cannot paste images directly. Upload or insert images from URL.

Loading...
×
×
  • Create New...