Jump to content
Baghdadee بغدادي

انتبهوا: لقد وصل الإيذاء الارهابي إلى ملوية سامراء


Recommended Posts

بعد عناد الزمن طويلا: ملوية سامراء.. بلا رأس!

رشيد الخيون *

انتبهوا: لقد وصل الإيذاء الارهابي إلى ملوية سامراء!

 

فمثلما تركت الحروب نخيل العراق بلا رؤوس، ومثلما يعثر يوميا على جثامين لبشر بلا رؤوس غدت مئذنة الملوية بلا رأس أيضاً. وهنا يقاس حجم المحنة التي طالت تاريخ العراق وحاضره.

قبل عامين من وفاته، أمر الخليفة جعفر المتوكل على الله ببناء مدينة المتوكلية شمال سامراء. وهناك أبدع المعماري العراقي طراز المئذنة الملوية لمسجد أبي دلف، محاكاة لطراز زقورات معابد العراق القديمة. ويخطئ العديد من الكُتاب والباحثين عندما ينسبون عمارة الملوية إلى الخليفة المعتصم بالله، وذلك لأنه بنى سامراء واتخذها عاصمة للدولة العباسية، للتخفيف عن بغداد التي ضاقت بعساكره. وتؤكد البحوث أن اسم سامراء منحوت من مفردة سومرية، أو من شامرا الكلدانية. فالمنطقة ككل كانت من توابع البلاد السومرية والبابلية، مثلها مثل بغداد والبصرة، وما حصل أن هذه الحواضر اُتخذت مدناً وعواصم، غطت على تاريخها وأثرها القديم. فيعرف الجميع اليوم أن أصل التسمية هي سر مَنْ رأى.

كلفت دولة المتوكل المهندس الكلداني دليل يعقوب بتصميم وبناء المئذنة، وهي عبارة عن زقورة حلزونية، تلتف خمس لفات عظيمة، تنحف تدريجياً حتى تصل إلى قمتها.ويبلغ ارتفاعها الكلي اثنين وخمسين متراً، يُصعد إلى قمتها على الخيل أو البغال أوالحمير. وطريقها الحلزوني من السعة أن يسير فيه الناس جماعات جماعات، وكأنهم يسيرون في شوارع المدينة. وكثيراً ما يفشل المرتقون بلوغ القمة، لما يصيبهم من حالة الدوار أو التعب، أو الخوف من العلو الشاهق. فيبدو حجم الواقف على رأسها ضئيلا للناظر من الأرض. وعلى غرار ملوية سامراء، أمر حاكم مصر أحمد بن طولون تشييد مئذنة جامعه المعروف.

ظلت ملوية سامراء عصية على طوارئ الحدثان. ولم تتعرض أحجارها للنبش والسطو، مثلما تعرضت أحجار بابل والمدائن، التي شيد بها الحجاج بن يوسف الثقفي قصره وملحقات مدينته واسط، وشيد بأحجارها أيضاً أبو جعفر المنصور مدينته المدورة ببغداد. فكانت السفن تنقل من تلك الحفائر الأحجار والبوابات عبر دجلة. ورغم هدم مسجد أبي دلف، فلم يبق منه غير الجدران، إلا أن ملوية سامراء احتفظت بقوامها، وأداء مهمتها في الأذان والمراقبة لفترة طويلة من الزمن.

أصبحت الملوية، على مر العصور، معلماً من معالم حضارة عالمية سادت على ضفاف دجلة، وما زالت شاهداً على ذلك الرقي المعماري. ولربما خفف هذا الأثر من انتكاسة العصر العباسي التي بدأت بخلافة جعفر المتوكل، حتى اعتبرت خلافته نهاية لما عُرف بالعصر العباسي الأول، ليبدأ عصر تربع على مقدراته قادة الجيش والغلمان والجواري. فكان المتوكل أول خليفة يُقتل بيد الغلمان الأتراك بالتواطؤ مع ولده المنتصر. ولربما أنستنا عمارة الملوية الزاخرة القمع الفكري والمذهبي الذي افتتح في تلك الأيام، لما أُغلق باب الحوار والجدل، وطُورد أصحاب الكلام والفلسفة، ومَنْ له خلاف فقهي أو فكري. ومن غرائب مؤسس ملوية سامراء، الخليفة المتوكل على الله، أنه منع العامة من استخدام الورود والرياحين، ذلك لأنه أحبها وأرادها لا تظهر إلا في قصوره ومجالسه. وينسب إليه القول: «أنا ملك السلاطين، والورد ملك الرياحين فكل يختص بصاحبه».

تدور ملوية سامراء، من الأسفل إلى الأعلى، عكس اتجاه عقارب الساعة. وهي بهذه الخاصة تبدو في عناد مع الزمن، وتفصح عن سر حفظها من الفناء. فمَنْ يرتقي طريقها الشاهق، ويدقق في أحجارها وهيئتها يجدها خارج الزمن بالفعل، وكأنها شيدت بالأمس القريب. وهذا ما لا يتحقق لمعالم العراق الأثرية الأخرى. فلم يبق من زقورة عقرقوف، شمال بغداد، غير كتلة من الأتربة والأحجار، رغم كثرة مداراتها بالترميم والصيانة. ووجدت بوابة عشتار متفرقة بين طيات النسيان، تغطيها الأطيان والأتربة، لكنها احتفظت بألوانها العجيبة، فعندما تنظرها، وهي تزين المتحف البرليني، لا يشغلك غير براقة اللون، وثباته كل هذه الدهور. أما إيوان كسرى، بالمدائن جنوب بغداد، فكان في الزمن الساساني أحد قطبي العالم، يقابله في الشمال من الكرة الأرضية الروم البيزنطيون. ولم يبق من قطب الدنيا الجنوبي غير قطعة من الطابوق الآجر معلقة بين جدارين، قد تسقط في أية لحظة. وقبلها أمر هارون الرشيد بهدمه ومسح الأثر الساساني من على وجه الأرض، وجهز العدة لذلك. لكن وزيره البرمكي أشار عليه أن لا يفعل، فاتهمه الخليفة بالحنين إلى المجوسية، أُصول الوزير الدينية، لكنه برر المشورة بالقول: لو تقدمت على هدمه وعجزت لقالوا إنه الصرح العظيم! ولو تركته لبقى شاهداً على بنيان عظيم، هزمت صاحبه وأخضعته لسلطانك! وبهذا القول أسقط الوزير ما بيد الخليفة من حيلة، فترك الأمر. لكن أوان الحرب العراقية الإيرانية تقرر أن لا يخضع الإيوان الساساني للترميم والتعمير، وإنما يُترك لعوادي الزمن تهده بالتدريج.

تعرضت الآثار العراقية، المنقولة وغير المنقولة، إلى حملات تدمير متواصلة، على مر العصور، فمن غير الأحجار والبوابات التي نقلها الحجاج بن أبي يوسف الثقفي ثم أبو جعفر المنصور إلى قصور واسط ومدينة بغداد المدورة، حوّل العثمانيون المدرسة المستنصرية، التي شيدها الخليفة المستنصر بالله، إلى دار للكمرك، أوت إليها حيوانات النقل، ورست عندها السفن الماخرة دجلة. ولم تسلم احجارها وبواباتها من الضياع.

وحاول مَنْ حاول تشييد دور فوق آثار نينوى الآشورية، ولما تعرض المعماري محمد مكية لذلك، كتبت عنه الصحف مانشيتا يقول: مكية يحمي الأصنام والأوثان!!

وكنا نقرأ عن المستنصرية، في المناهج المدرسية، على أنها كانت جامعة دولية، يؤمها المغاربة والمشارقة من طلبة العلم، وفيها الأقسام الداخلية ومؤسسات العناية العلمية. لم يمسها المغول عند اجتياح بغداد بسوء، بل أبقوا عليها. وقد أوهمني ما قرأت عنها، وأنا القادم من أهوار العراق، وغير العارف ببغداد، ماعدا تاريخها المقروء في الكتب، أنها الجامعة المستنصرية الحالية، فأخذت أوراقي للتقديم إلى الجامعة. دخلت إلى فناء المدرسة الموحش، وقت الغروب، إلا من الحارس، ورائحة الزمن الغابر. سألته: أليست هذه الجامعة المستنصرية؟ قال مستغرباً من جهلي: لا! هذه بناية قديمة، والجامعة التي تسأل عنها في مكان آخر. هنا شعرت أن درس التاريخ، الذي أحببت، قد خذلني، فهو مجرد صدى روايات، أما الواقع على الأرض فشيء آخر.

وهل ابقى رئيس الوزراء المتمدن أرشد العمري شيئاً من أسوار بغداد وبواباتها، وهل أبقى صدام حسين حجرا بابليا من دون أن يضع اسمه عليها، وعبارة أراد بها الخلود، تقول:«من نبوخذ نصر إلى صدام حسين بابل تنهض من جديد»، لكن هذا الجديد لم يتعد تشويه الأحجار، وتهديم الأسوار.

لربما لا ينظر العديدون إلى ساطع الحصري بغير منظار واحد، وهو معاركه وخلافاته في إدارة التعليم، وما صاحب ذلك من جدل حول طائفيته المبالغ فيها. ولم يُذكر لهذا الرجل دوره المشهود في حماية الآثار العراقية، سواء من تمدن المسؤولين العراقيين في العهد الملكي، أو من بعثات التنقيب الآثارية الأجنبية، وعلى وجه الخصوص البعثات البريطانية. فلما أصبح مديراً للآثار بعد المس بيل، وهي صاحبة الفضل في افتتاح أول متحف عراقي ببغداد، ومدير بريطاني آخر، اتجه الحصري إلى وضع قانون خاص بحماية الأثر العراقي، والمناصفة مع البعثات التنقيبية، والتي اتخذت من الفارمانات العثمانية ذرائع لنهب الآثار، فوصلت بوابة عشتار، وضريح نبوخذ نصر إلى برلين، ومسلة حامورابي إلى باريس، وما لا يعد ولا يحصى من اللقى الأثرية. وقد خصص البرلمان العراقي في العشرينيات عدة جلسات لمناقشة شأن الآثار، وخاصة بعد فضيحة المستر كوك، الذي سرق عشرات الصناديق المحملة بالآثار، وقد اكتشف أمره في الرطبة، حيث الحدود مع الأردن.وعندها أنشد أحد نواب البرلمان، أمام الأعضاء، بيت أحمد شوقي الآتي:

ومَنْ سرق الخليفة وهو حيٌ يعف عن الملوك مكفنينا؟

إن التجاسر على هيبة التاريخ بتفجير رأس ملوية سامراء يبشر بزمن وبفكر لا يقيم للتاريخ وزناً، ولا يعتبر بطوارق الدهور، فمن عجب قيل عن الأهرامات بمصر: «يفنى الدهر ولا يفنيان». ومن عجب سميت عوالم من التاريخ بعجائب الدنيا السبع، ومن العراق: كانت جنائن بابل المعلقة، رغم أنها مجرد خبر في التاريخ.

ولربما هناك صلة بين المعول الذي استفز التاريخ وملايين البوذيين بهدم تمثالي بوذا المحفورين في جبال باميان، وبين المعول الذي هدم رأس ملوية سامراء. فكلاهما منقطعان عن التاريخ، بقدر انقطاعهما عن الحاضر.

لقد شهد بناء الملوية، وتعايش معها، أئمة وفقهاء، منهم الإمام أحمد بن حنبل، والإمامان علي الهادي والحسن العسكري، طالما سمعوا من على قمتها أذان الصلاة. وقضوا وأفتوا بين الناس، وهم يجلسون تحت ظلها، ولم يفتوا بزوالها، أو بإيذائها. وها هي ثلاثة عشر قرناً تمر عليها، وما زالت شاهقة في فضاء سامراء، كان ظلها في الزمن العباسي يعبر إلى الصين وما بعد النهر.

يبقى الأثر الحضاري، بحجم ملوية سامراء، وثيقة تاريخية كبرى، لا تضاهي صدقها مراكب، أو قوافل محملة بكتب التاريخ السياسي ورواياته. قال معروف عبد الغني الرصافي في قيمة الأثر:

فإن ذكروا النعمان يوماً فلا تثق بأكثر مما قال عنه الخورنق

لقد تشتت آثار العراق شرقاً وغرباً، بعد نهب المتحف العراقي نهباً شاملاً، وما زال يسطو النباشون على حفائر أور وبابل وننيوى، ومع ذلك الأرض ما زالت تدر بالكثير النفيس، فمثلما تطفو أرض العراق فوق بحيرة من النفط، وكثيرة الماء، فإنها تضم مخزوناً لا ينضب من الآثار.

* باحث عراقي

Link to comment
Share on other sites

Join the conversation

You can post now and register later. If you have an account, sign in now to post with your account.

Guest
Reply to this topic...

×   Pasted as rich text.   Paste as plain text instead

  Only 75 emoji are allowed.

×   Your link has been automatically embedded.   Display as a link instead

×   Your previous content has been restored.   Clear editor

×   You cannot paste images directly. Upload or insert images from URL.

Loading...
×
×
  • Create New...