Jump to content
Baghdadee بغدادي

الـعـراق الأمـريـكـي و حسن العلوي


Recommended Posts

http://www.kitabat.com/i6042.htm

 

الـعـراق الأمـريـكـي

 

لـ حـسـن الـعلـوي

 

كتابات - حـوار : عـمـار الـبـغـدادي

 

الـقـسـم الأول

 

 

 

الإهـــــداء

 

إلى بدر..

 

شقيقي الأصغر. المجهول المتواري في معتكف المنـزل.

 

إليه في غربة القبر بعد أن أمضى في غربة الحياة ثلاثة وعشرين عاماً رهين الحفرة.

 

إليه وحده يدفع في سره ثمن بقائنا أعلاماً في المنفى نقارع المنظمة السرية. إنه وحده المنفي الحقيقي مقابل الظهور العلني لأشقائه الثلاثة كاظم وهادي وحسن.

 

إلى بدر.. الذي خرج إلى النور في مفتتح العراق الأمريكي وعاد إلى الظلمة.

 

إلى بدر الذي أمضيت معه أسبوعاً لم أشبع عيني من تأمل جسده ذائباً في قرارة الرعب.

 

أقول هل ترفع هذه الكلمات عني شبح الشعور بالذنب عندما غادرت العراق وتركت شقيقي الأصغر بلا زوجة ولا طفل مع شقيقتيه عاجزين عن مواجهة الرعب

 

اليومي فرحلت مليكة قبل أن ألتقيها.. وأنتظر بدر عودتي ليرحل..

 

حسن ..

 

أربيل 15/6/2005

 

*********

 

 

 

الـعــلـوي وكتــــابه

 

 

 

بعد أن أملى عليّ كلمات كتابه الأخيرة أشار ـ وكأنه يخبرني بما سيقع في المستقبل من أحداث ووقائع وتطورات دراماتيكية عاصفة ـ أن اجتياح لبنان ومن ثم خروج القوات الإسرائيلية من العاصمة بيروت عام 1982، هو آخر الاجتياحات الإسرائيلية للحدود العربية، وأن انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي إن تم وأرجو له أن يتم سيذيب في عقيدة سياسييها المدنيين وجنرالات عسكرها الطورانيين نزعة التوسع على حساب الوجود القومي العربي، وسيحول تركيا إلى دولة قريبة في شعورها من هموم ومشاعر العالم العربي، بعد غربة امتدت لأكثر من ثمانين عاماً، أي بعد قيام الدولة العلمانية الأتاتوركية عام 1923. إن انضمامها سيهذب روحها الطورانية، ويجعلها أكثر اقتراباً من نبض الشعوب العربية.

 

العلوي في كتابه (العراق الأميركي)، يذكّر كل المساحات والساحات والقراء، بالمفاهيم التي أشاعها قبل أكثر من ربع قرن، وتحولت إلى قواعد متداولة في الفكر السياسي العربي والعراقي على وجه التحديد، وكذلك بالتنبؤات التي أطلقها قبل أن تدهم القوات الأميركية (أسوار بغداد) وتطيح بعرش دولة المنظمة السرية، عبر كتبه سواء في دولة المنظمة السرية، أو في كتابه الشيعة والدولة القومية في العراق، الذي وصلت إيراداته في الأسواق العربية والأجنبية إلى ربع مليون دولار، أو كتابه دولة الإستعارة القومية، أو التأثيرات التركية في المشروع القومي العربي.

 

فقد تنبأ بانهيار الجيش العراقي مثلما حدث في 9 نيسان 2003 وسقوط الدولة القومية لحساب وطنية السلطة، وتحول الجيش العراقي الذي بني أساساً على العقيدة الأحادية والدفاع عن دولة المستوطنين إلى جيش متطوعين، واختفاء إلزامية التجنيد، مثلما أكد أن السيادة للإنسان وقيم بقاءه لا للتراب. وفي العراق الأميركي كما يقول العلوي، تختفي قومية السلطة لصالح وطنيتها، حيث تبدو صورتها أقرب إلى الطريق العام الأخضر المحاذي لنهر دجلة، إذ لا يمر المّار بمحاذاته حتى تسقط عيونه

 

على تنوع فريد من النخيل الممتد من أول النهر، عابراً مساحات من الخضرة التي تسر الروح ولا تبعث على الملل الذي يصدم الذاكرة، وهي تمر على عواصم ليست بعيدة عن مآذن بغداد العباسية وروح القباب المتوهجة على ضفافها.

 

بهذا التحول أمكن للطالباني الكردي القادم من الأغوار العميقة وصخور الجبل، أن يكون رئيس جمهورية السلطة الوطنية ولعبد العزيز الحكيم الشيعي العربي أن يكون زعيم أول أغلبية برلمانية يشهدها العراق منذ فجر تاريخه الحديث، بعد أن كان المجلس النيابي أو الوطني لاحقاً، غرفة مستأجرة لبواب سكرتير المشروع القومي القابع بسوداويته القاسية ونظرته الحادة خلف قطع الكونكريت المسلح الذي يحوط مباني القصر الجمهوري، وبيوت الرجال السريين السابقين في المنطقة الخضراء.

 

لقد بشر حسن العلوي برئاسة الطالباني قبل أن يكون للعراق الحالي شأن يذكر في أولويات الإدارة الأميركية، أيام كان الملف العراقي جثة هامدة في أدراج السياسة الأميركية بزعامة الديمقراطي بيل كلينتون، لا يكاد يتحرك خطوة باتجاه الفاعلية والنهوض والحركة المفترضة، حتى يشهد موتاً آخر في ادراج الإدارة الأميركية، لا يقل مهابة عن موته السابق. لقد أراد الأستاذ أن يؤكد لقراءه حقيقة واحدة أساسية، هي أن العراق ـ هذا البلد الذي نشأت بعض أجزاء جغرافيته في (أحضانستان) كما يسميها في الكتاب، سيشهد ولادة تجربة ليبرالية ديمقراطية، تخرجه من ظلامية المشروع القومي إلى رحاب تجربة في المدنية والحقوق السياسية وبناء الدولة تمتد

 

لأكثر من ثلاثمئة سنة، هي حصيلة التجارب السياسية الإنسانية الديمقراطية. ولا عجب أن يتخذ الأميركيون اليوم، ومعهم عدد من المسؤولين العراقيين من المنطقة الخضراء مكاناً لهم ومركزاً لأهم التجمعات السكانية المهمة في بغداد. ذلك لأن بغداد وهي المدينة الخضراء بتراثها الحضاري وقيمها المعرفية لن تنطفئ شعلة الحيوية في عيون سكنتها، مهما اشتدت عاديات التحدي ومهما إغبر فضائها بتراب الموتى وشوهت السكاكين بعض ملامحها.

 

حاول الأستاذ، ونجح في محاولة وضع الإصبع على دُمّلة أزمة العراق التاريخية المتمثلة بحرمان الأغلبية من التمتع بالحقوق السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، أو ما يسمى بالحقوق المدنية، ويؤكد في هذا الصدد، أن الأغلبية في العراق الأميركي، لن تكون محكومة بعد انهيار السلطة الأحادية في وقت كان العلوي، قبل أكثر من خمسة عشر عاماً، يدعو قادة الأغلبية العربية المضطهدة، إلى رفض التصرف في المحافل والعواصم والمؤتمرات واللقاءات السياسية وأمام المسؤولين والقادة العرب ومستشاريهم، بوصفهم من أبناء المذهب المحكوم، لأنهم وإن كانت سلطة المستوطنين تتعامل معهم وفق هذه القاعدة لكنهم في المعارضة لا بد أن يتعاملوا

 

مع العالم باعتبارهم قادة المذهب الحاكم.

 

العلوي في كتابه (العراق الأميركي) يلخص فهمه الاستراتيجي لعنوان كتابه، بعد أن سألته عن مغزى العنوان ودوافع التسمية، أن العراق مر بأطوار عديدة في تاريخه ساهمت في إنتاج مراحل مهمة من حياته السياسية والإنسانية، وشكلت تلك الأطوار حدوده ووجوده وموقعه في الجغرافية الدولية، وأفاضت عليه من سماتها السياسية الكثير، فهناك العراق البابلي والعراق السومري والعراق الأموي والعراق العباسي والعراق العثماني والعراق الملكي واليوم وبعد دخول القوات الأميركية بغداد، هناك العراق الأميركي. إن عراقاً كهذا الذي يتشكل الآن لن يكون مرتعاً لغربان القرى، الوافدين من الأغوار البعيدة. لن يكون مستوطنة محتلة، تتقاذفها السياسات الطائشة، والحروب والمقابر الجماعية، وامتيازات رجال المنظمة السرية.

 

العلوي الذي يكشف في كتابه عن جانب مهم من لقاءات ومشاورات وحوارات طويلة وجهود سنوات مضنية من العمل والإسهام بإنجاز مهمة الخلاص من نظام الرعب السابق، يكشف أيضاً عن نقاط خلاف وتوافق واصطدام رؤى وقناعات مع رجال العراق الأميركي، ومع شخصيات نافذة في السياسة الدولية، فقد كان يرى أن بعض تلك السياسات سائرة باتجاه تحطيم النموذج، ونسف جهود سنوات طويلة من الكفاح الوطني، لكنه عاصر من موقع والفاعل والمؤسس مراحل مهمة من مسيرة الحالة الوطنية العراقية، أوضح في الكتاب ـ ولأول مرة ـ أنه كان في كثير من مراحلها في موقع القلب كفكرة تشكيل المؤتمر الوطني العراقي الذي اعتمد مؤسسوه على

 

نظام الدوائر، كما كان يعتقد العلوي في إطار رؤيته السياسية لإيجاد مشروع وطني حاضن، لكافة تجليات وأحزاب ما سمي سابقاً بـ المعارضة العراقية.

 

كل الذين يعرفون حسن العلوي يقولون أن الرجل وفي نهاية كل كتاب يصدره يبقي دائماً ثمالة في كأسه المترعة بالجديد، فالذين تصوّروا أنه فرغ من معالجة المسالة الطائفية في كتاب الشيعة والدولة القومية، فوجئوا به يجدد مبناها ويوسع دائرة النقاش بتفاصيلها، ويعطيها نكهة مختلفة في الأسلوب والمعالجة في كتابه «بقية الصوت»، والعلوي يعد بحق مكتشف هذه العقدة التاريخية وإشكاليتها في السلطة القومية وحكوماتها المتعاقبة.

 

حسن العلوي، الذي يشرفني أن أكون محاوره طيلة رحلة ممتعة في كتابه الشيق، «العراق الأميركي» عبر سفر خضناه سوية في معتكفه، رجل لا ينتهي، وبالتالي فالكتاب بأسئلته المختلفة وبالإجابات التي قدمها الأستاذ يمثل محطة مهمة من محطات الفكر الاستراتيجي للرجل والتقاطة عميقة لحال العراق الحالي وامتداداً لرؤية سياسية متجددة دائماً يتبعها بالمزيد من التواصل في سياق مشروعه الخاص الذي أثار ويثير باستمرار جدلاً واسعاً ومفيداً في الأوساط العراقية والعربية.

 

 

 

* عمار البغدادي

 

 

 

 

 

الشــيـعـة وأبـو حـنـيـفــة

 

 

 

س : في حوارك السابق مع الصحفي العراقي عدنان العبيدي وقد شاركت في كتابة جوانب من فصوله حيث أشرت بود ومحبة بالغة لأبي حنيفة ما دوافع هذا الحب؟

 

 

 

ج : كعراقي أنتمي إلى التشيع لم أر حتى الآن سبباً لمناوئة التشيع لإمام لم يناوئ التشيع في أي سطر أملاه علي تلامذته وأتباعه. ولم أر فقيهاً أو مثقفاً يملك خصائص أبي حنيفة وقد جعل للمثقف سلطة أكبر من دائرة السلطان ولم يقترب من حاكم ولم ينحن لظالم ولم يعترف بدولة مغتصبة. وهو في الفقه إمام الحرية والتسامح، وكانت حياته نموذجاً متقدماً لحياة فقهاء ومتسامحين عشنا جانباً من أعمارهم كالإمام أمجد الزهاوي والإمام محمد الحسين كاشف الغطاء والإمام السيستاني آخرهم.

 

 

 

س : ما الذي يميز السيستاني عن الفقهاء الآخرين؟

 

 

 

ج : السيستاني ظاهرة في الفقه الشيعي تقترب من ظاهرة الشريف المرتضى والشريف الرضي بقدر ما يبتعد عن الخط العام للفقه الشيعي الثوري. وهو أيضاً يبتعد عن مدرسة الإمام الخميني التي تدعو لسلطة الفقيه المباشرة بقدر ما تقترب من فقه الإمام السني الشيخ محمد عبده والشيخ السني عبد الرحمن الكواكبي في علاقة الدولة بالدين.

 

 

 

س : ما قصدك، ما الذي استوقفك بالكواكبي ومحمد عبده؟

 

 

 

ج : هؤلاء فقهاء وأئمة وعلماء دين لكن لا يطالبون بإقامة دولة إسلامية يحكمها حاكم إسلامي، بل يتركون الأمر لصناديق الاقتراع ودولة حديثة لا تخالف أسسها الدستورية أسس الإسلام وقواعده الشرعية.

 

الشيخ الكواكبي يدافع عن المسلم السني والمسيحي والصابئي بنفس مجرد واحد.

 

هو أيضاً وريث الملا كاظم الخراساني في الدعوة المشروطة (الحياة الدستورية) وإقصاء الدكتاتورية عن الإسلام.

 

 

 

العـــراك الإعـــلامي

 

 

 

س : الناس تتسائل وأنا منهم. لماذا لم تساهم بالنشاط الإعلامي والانتخابي في العراق وبقيت بعيداً عن المعترك الذي كنت دائماً من حملة ألويته؟

 

 

 

ج : ربما لأنني لا أملك شجاعة هؤلاء الذين تصدوا للعمل في هذه الفترة العصيبة. أو ربما لشعور بأنني أديت دوراً في التصدي للنظام السابق لم يُنافسني عليه لا أشخاص ولا مؤسسات أو لحاجة هذه المرحلة لوظيفة المراقب العام الذي يبدو بعيداً وهو في لجّ الحدث فإنا لم ألق سلاحي ولم أعتكف وما زلت أمارس دوراً من خلال خطوط ووسائل وأحاديث ساخنة قد لا يتوفر لها إلا من يقف مثل موقفي المحايد. فأنا أكتب واقترح واعترض وأنصح وأرفض وأقبل أموراً تصل إلى أصدقائي كالرئيس مسعود البارزاني والرئيس جلال الطالباني والرئيس اياد علاوي والدكتور أحمد الجلبي وزعيم الأغلبية البرلمانية عبد العزيز الحكيم ونائب الرئيس عادل عبد المهدي وهناك جانب آخر متصل بأصدقائي الذين ما زالوا معارضين من العراقيين والعرب وقد يظهر خبر أو رأي أو موقف أنا كاتبه في جريدة أو مجلة عربية أو حديث تلفزيوني لأحد الأصدقاء وعلى لسان زملائي الذين ما زالوا في المعارضة.

 

 

 

س : هل ندخل دائرة كشف الأسماء. فقد سميت أصدقائك من زعماء النظام الجديد بينما أحجمت عن ذكر أصدقائك العرب والعراقيين؟

 

 

 

ج : من يتابع مقابلاتي التلفزيونية (وأنت واحد منهم) ربما يعرف معظم هذه الأسماء. فليست لي اتصالات سرية محرّمة.

 

إن مساحتي الاجتماعية بسبب طول التجربة اتسعت لصداقات ثنائية لكن أصدقائي قد لا يكونون أصدقاء مع بعضهم فربما يكون أحدهم خصماً للآخر.

 

فأنا مثلاً أشرف على جريدة المؤتمر واسعة الانتشار في لندن أيام المعارضة إلى جانب إياد علاوي وأحمد الجلبي والشريف علي بن الحسين وممثلي الأحزاب الكردية والإسلامية لكن صلتي بأصدقائي الإسلاميين العرب والعراقيين بقيت مستمرة ولم تنقطع ومن أحب أصدقائي عبد الباري عطوان رئيس تحرير جريدة القدس العربي ومنزلته لا تقل عندي عن منزلة خصمه اللدود الصديق الكويتي فؤاد الهاشم صاحب أجمل عمود ساخر في الصحافة العربية. وعلاقتي لم تنقطع مع أي صديق بعد سقوط صدام ممن عارضوا الاحتلال الأمريكي بشراسة كالصديق الشجاع حسن صبرا والصديق الحكيم طلال سلمان وكوني جزءً من النظام الجديد الذي خاصم

 

أصدقائي القدماء وما زالوا أمثال محمد المسفر وهارون محمد.

 

وكما أني صديق لجميع وزراء الإعلام السوريين فإن علاقتي بأحمد الجار الله وجريدته لم تنقطع ولي فيها حتى الآن صولات وجولات.

 

لست بعد خمسين عاماً من التجربة السياسية والثقافية والإعلامية تابعاً لمتبوع وهناك متسع لمن يريد أن يكون من أتباعي.

 

 

 

س : بحكم مزاملتي لك يزورك صحفيون ومثقفون وباحثون أجانب أرغب في التوقف عند جانب من هذه اللقاءات؟

 

حجم العلوي في المعارضة لم يكن حجمه في السلطة وإذا ما تسمى الآن سفيراً فأنا أشهد (عمار البغدادي) حيث مازلت معك في سوريا أنك تؤدي أموراً في المعارضة للعراقيين ما لم يؤده غيرك. هل وجودك سفيراً جزءً من العزلة والاعتكاف أو التمرد.؟ خصوصاً وأن الرئيس الراحل حافظ الأسد وفّر لك ما لم يوفره لأهم وزرائه.

 

 

 

ج : سألني الشريف الحسين بن علي والد الشريف علي بن الحسين رئيس الحركة الدستورية ألا يمكن أن يكون المثقف حراً؟

 

فأجبته: يمكن أن يكون حراً لكن ليس حراً خالصاً إذا كان هذا المثقف خارج بلاده ومطارداً من سلطته لأنه سيخضع لأكثر من سلطة تفرضها عليه طبيعة الحياة وأولها وأشقاها سلطة دفتر الإقامة وسلطة دفتر السفر وسلطة دفتر المدرسة (مدرسة الأبناء) وسلطة السكن وسلطة حمايتك من العدوان وعليك كمثقف أن تراعي هذه الجوانب، وعندما تراعي بعضاً منها فإنك تفقد بعضاً من حريتك.

 

الآن وقد انتهت تلك السلطات جميعاً.. هل تريد مني أن أعود إليها أم أتمتع بحقي السيادي وامتلاك جميع هذه السلطات التي تمتحن الحرية. أنا أحد بناة هذا النظام ولست ضيف شرف عليه.

 

 

 

س : لكن وظيفتك الجديدة تتعارض مع ما تنشد من حرية وتطلعات في مراقبة الوضع العام؟

 

 

 

ج : كان الشاعر العراقي عبد الغفار الأخرس (عاش في القرن التاسع عشر) يشكو من حبسة في لسانه فأشار إليه أحد أصدقائه بالسفر إلى الهند حيث يوجد أطباء بريطانيون يمكن لهم إجراء عملية لإزالة هذه الحبسة. فسألهم:

 

وهل هناك من أخطار على حياتي قالوا له: نعم

 

قال: أنا لا أبيع كلي ببعضي

 

 

 

س : وأنا الآن أردد كلمة الأخرس وأسألك من هو الأقدم والأصعب والأكثر عرقاً وجهداً.. لقب الكاتب الذي رعيته ورعاني خمسين عاماً أم لقب الوظيفة الذي التحق بي قبل أشهر.. كيف أستبدل كلي ببعضي؟

 

 

 

ج : ولهذا اشترط على الإعلاميين الذين يتحدثون معي أن لا يشيروا إلى موقعي الوظيفي. ويكفيني قناعة أن هذا اللقب المؤقت قد يزول عن صاحبه أسوة بما هو أكبر منه من ألقاب فيقال الملك السابق والرئيس السابق والسفير السابق.

 

فهل سمعت أحداً يقول الكاتب السابق أو الشاعر السابق وقد مضى ألف عام على الجاحظ والمتنبي وأبو العلاء وألف وخمسمائة عام على امرؤ القيس ولم يصبح لحد الآن سابقاً فما زال الشاعر امرؤ القيس زميل الطلاب على مقاعد المدرسة.

 

واسمح لي بالعودة إلى سؤالك مرة أخرى فالدبلوماسيون في العالم الديمقراطي يختلفون في وظائفهم وصلاحياتهم عن الدبلوماسيين في الدول الشمولية والدكتاتورية التي كما تحرم على مواطنيها التفكير والحديث فإنها تحرم على موظفيها حق التفكير والكتابة، وتحصر ذلك بما يسمى المركز، والمركز يستقي صلاحياته من مركز المخابرات، فلا سفير يحاضر، ولا سفير يناقش بندوة تلفزيونية، إلا بما يلقنه به المركز، لكننا في العراق الأمريكي شيء آخر، فنحن ننتمي إلى المدرسة الليبرالية الحرة، حيث تفتخر الخارجية بسفرائها المبدعين، فترسل فرنسا أفضل شعرائها ليكونوا سفراء لا ليلجموا عن الشعر والكلام. وحتى في دول عربية محافظة كالسعودية،

 

فإن الشاعر الأديب الكبير غازي القصيبي قد ملأ صالات لندن الثقافية والأدبية بحضوره الذي طغى على لقب السفير، وبدأ الناس يتعرفون على السفارة بالشاعر الكبير وليس بكاتب التقارير، وحتى هذه اللحظة فهناك دبلوماسي سعودي يدعى جمال خاشقجي يسأل ويجيب في أجهزة الإعلام العالمي بشكل شبه يومي وبما يراه مقنعاً.

 

إن تغيير النظام، لا يعني تغيير عقل النظام الذي يستمر لسنوات، لاسيما عندما يحتفظ النظام الجديد بعقلية النظام السابق، وهو ما يحدث حالياً في العراق. ينبغي التحلي بالشجاعة والجرأة والإعلان إن نظاماً جديداً يبنى في العراق ولن يكون من بناته هؤلاء القادمون من أقبية التعذيب المدججين بالعقل الأحادي الذي يرى في العراقيين خارج أحاديتهم كأنهم خصوم، فصارت السفارة العراقية في أي عاصمة مخفر شرطة، أو مكاناً يتجنب العراقيون المرور في الشارع الذي تقع فيه، ومازال الخوف يطغى على مراجعي السفارات لأنهم يشاهدون ذات الوجوه.

 

نحن بناة النظام الجديد الذين أمضينا ربع قرن كاملاً في عملية تغيير ذاتي لتجديد أفكارنا ومشاعرنا حتى تستوعب العراقيين جميعاً وسيحتاج النظام الجديد إلى أشخاص لا يقل وجودهم في المعارضة عن عشر سنوات، مؤهلين للإدارة الجديدة في وزاراتها أو سفاراتها..

 

 

 

يتبع ..

 

 

 

الـقـسـم الثاني

 

 

 

كـتـب ســــرية

 

 

س : أسألك عن أمور أعرفها تتعلق بما أنجزته من كتب لازالت مخطوطة؟

 

ج : دعني أكشف لك وللقراء شيئاً، فقد كنت مهموماً بفكرة كتاب عن العراق الأمريكي، في الوقت الذي انتهيت من كتابي (إرهاب النص) وقد أرجأت طبعه لما ينجم عنه من مخاطر، شأنه شأن الفتوح السفيانية، وكأنني سأترك لورثتي شيئاً سينشغلون به من بعدي، ثم أنجزت معك مخطوطة كتابي مستطرف الجواهري وسنعود لاستكمال فصله الأخير بعد توقف طارئ.

 

س : أعرف هذا الطارئ وأنت تملي علي فصول الكتاب فهل تسمح لي بالكشف عنه؟

 

ج : أما أنا فأعتقد أن الكاتب يمر بحالات مماثلة، فيتوقف عن رحلته فجأة وهو في مشروع رواية أو قصيدة أو دراسة لكنه سيعود بالتأكيد لاستكمالها وهذا ما سأفعله فلا مبرر للإعلان عن هذا الطارئ.

 

س : لماذا فكرت بهذا العنوان دون غيره.. العراق الأمريكي؟

 

ج : لأن العراق في عصوره التاريخية مر بأطوار، فهناك العراق السومري والعراق البابلي والعراق العباسي والعراق العثماني والعراق البريطاني، وهناك ما سمي بعراق عبد الكريم قاسم، وعراق صدام حسين، وعراق نوري السعيد، ونحن الآن في العراق الأمريكي فما هو وجه الغرابة.

 

 

العــراق البريطــاني ســــنـي

والعـراق الأمــريـكي شـــيـعي

 

 

 

س : وكم تعتقد سيعمر العراق الأمريكي؟

 

ج : أعتقد أنه من قصار الأعمار، وقد يكون أقصر عمراً من العراق البريطاني، لكنه أكثر تأثيراً من سابقه.

 

س : ما الفرق بين العراق البريطاني والعراق الأمريكي؟

 

ج : العراق البريطاني سني والعراق الأمريكي شيعي، وفي كلتا الحالتين نهض شيوخ الإسلام بالمهمة الأولى والأساسية. ولهذا فأنا شخصياً قد أعدت النظر في تقييمات كانت تصدر ضد مؤسس العراق السني السيد عبد الرحمن النقيب الذي يبدو لي الآن شخصية تنتمي إلى عالم الأبطال النوعيين، نعم أنه بطل نوعي، حفظ السيادة لنوعه والمصالح لنوعه، وتصرف بطريقة براغماتية في التعامل مع الاحتلال البريطاني، لم يرتقِ إليها شيوخ الإسلام الشيعي، وكان أوضح في موقفه مع البريطانيين من شيوخ الشيعة مع الأمريكيين فقد أعلن وجهاً لوجه أمام المس بيل، أنه يسير في ركاب المنتصر، أي أنه لا يتحمل تبعات الدولة العثمانية المنقرضة والخاسرة وأنه

لا يلطم على الماضي ولا يبكي على الاسيتانة، وجسد النموذج الحديث لمشروع الفقه السني المعني بالدولة والرافض للفتن والعصيان.

وفي لقاء آخر مع المس بيل أعلن الشيخ الكبير أنه ينتمي إلى أمة مغلوبة، وأن للغالب حقوقاً وأنه غير قادر على مواجهة هذا المتغلب.

وفي جملته الأخيرة استخرج النقيب كفقيه كبير، مسوغاً شرعياً للخروج من المأزق، في قبول العمل كرئيس وزراء بولاية الحاكم البريطاني النصراني الذي تحرمه الآية الكريمة(يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين)إذ قبل تأليف الوزارة الأولى أثناء الحكم العسكري البريطاني المباشر، وحيث يكون رئيسه الأعلى المباشر هو المستر برسي كوكس ثم ألف وزارته الثانية بعد تتويج فيصل الأول.

كان النقيب في أول أمره من مؤيدي شعار العراق للعراقيين، وكان فقهاء الشيعة كما في خطاب ثورة العشرين، يرفعون شعار حكومة عربية برئاسة حاكم عربي.

أما شيوخ الإسلام الشيعي الآن، وفي تعاملهم مع العراق الأمريكي فإنهم يفتقرون إلى وضوح السيد النقيب وجرأته وبراغماتيته، فهم لم يشكّلوا كتلة موحدة كمشيخة الإسلام السني في العراق البريطاني، وأمرهم رجراج لا جنفاً ولا صدداً.

 

س : أعتقد أن المشهد معكوس بين المرحلتين والتاريخين؟

 

ج : لأن مشيخة الإسلام السني الآن، أقرب في نهجها وسلوكها مع الاحتلال الأمريكي إلى نهج مشيخة الإسلام الشيعي مع الاحتلال البريطاني.

بالتأكيد وهذا ما أريد أن أقوله. فأغلبية الشيعة مرتاحة للعراق الأمريكي. هكذا تبدو حتى الآن فيما مشيخة الإسلام السني هائجة ـ مائجة على غرار فقهاء النجف وكربلاء والكاظمية في ثورة العشرين.

 

س : وما هو وجه الاعتراض ما دامت المشيخة السنية تقوم بدور وطني ضد الأمريكان؟

 

ج : مازلت في حالة التوصيف، رغم ميلي الواضح للطريقة السنية الأولى في التعامل مع الاحتلال البريطاني (طريقة النقيب).

إن الناس تتداول عبارة لي، وردت في خطابي بمؤتمر المعارضة العراقية في بيروت عام 1991 حين قلت، أن السنة والشيعة عند تأسيس العراق الحديث رضخوا لقسمة كان كل منهم فرحاً بنصيبه منها، فالسنة أخذوا الوطن والشيعة أخذوا الوطنية، ومن يأخذ الوطن يأخذ معه القانون والثروة والتعليم والجيش المدجج والسفارات والسيادة المطلقة، ومن يأخذ الوطنية يأخذ أدواته المعهودة، منشوراً سرياً، وشعاراً على الجدران الخربة وبندقية صدئة في الأهوار، إذا تيسرت الحال ومظاهرة خائبة ضد تحالف السلطة مع البريطانيين، تنتهي باستبدال رئيس وزراء بريطاني برئيس وزراء إنكليزي، ما بين نوري السعيد وأرشد العمري أو ما بين الجمالي ومرجان.

 

س : هل تريد القول أن السيستاني الشيعي هو النقيب السني اليوم؟

 

ج : قلت لك أنني أستخدم أدوات التحليل والتوصيف، وأترك التشخيص للناس.

 

البغدادي : لم أقتنع بالإجابة وأعدها هروباً واضحاً

 

العلوي : يمكن المقارنة بين الاثنين، وقد تحدثت في هذا الأمر بمقابلة أجرتها معي فضائية المستقلة، أن السيستاني الآن كأنه يستخدم أدوات الفقه السني المعني بتكوين الدولة وإقامة السلطان، وإن كان سلطان وقت وهذا ما فعله عبد الرحمن النقيب، أما مشيخة الإسلام المتصدية للعمل السني، فتبدو لي وكأنها تأخذ بفقه التشييع الميال للثورة والتمرد والعصيان وعدم إطاعة سلطان الوقت، لهذا فإن الشيعة انتبهوا إلى خطأهم فأخذوا الوطن وابتهج السنة بالوطنية.

 

س : لكن العراق ساحة إبادة للجنس البشري فهل هذا عمل سياسي. وحين كان الشيعة مهمشين كما ورد في كتابك الشيعة والدولة القومية بحصة لا تساوي عشر استحقاقهم السكاني لكنهم لم يقتلوا سنياً في مناطقهم؟

 

ج : لا تنقصني الشجاعة على القول، أن المعارضة الشيعية للحكم السني خلال ثمانين عاماً، عدا فترة العمل المسلح في الأهوار، في الثمانينات كانت أرقى وأكثر تحضراً بما لا يقاس مع أعمال تنسب حالياً للمعارضة السنية، فعلى الرغم من أن العراق البريطاني، قد بايع أهل السنة على أكثر من ثمانين بالمئة من حصة الدولة والسلطة حتى لم يعد محافظو المدن الشيعة يرسلون من قرى السلطة السنية إليها وحسب، وإنما صار مأمور المخفر ومدير المدرسة أحياناً في المدن الشيعية سنياً، ولم يحدث مرة أن اغتصبت فتاة سنية في مدينة شيعية ولا تعرض لكرامتها معتدٍ ولم يستخدم الشيعة خلال 80 عاماً في رفض تهميشهم سوى القلم والورقة لكتابة مذكرة، يبعث بها الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء إلى رئيس الوزراء الهاشمي، أو مذكرة يبعث بها الشيخ الشبيبي إلى الرئيس عبد السلام عارف أو احتجاج على إهمال الشيعة تصدر من النائب عبد المهدي المنتفجي، أو في أقسى المواجهات قصيدة شكوى لشاعر شعبي ولم يخرج نضال الشيعة خلال 80 عاماً عن هذا الإطار الأخلاقي والحضاري رغم أنهم يواجهون بعد كل مذكرة بتهمة الطائفية، لمجرد التذكير بضرورة مساواة العراقيين في الحقوق والواجبات، لكن هل أن ما يجري في العراق من إبادات هو فعل سني عراقي؟

أسأل نفسي وأجيب، لا مجاملة ولا محاولة من محاولات التوفيقيين اليائسة، ولا ترديداً لمقولة ميتة من مقولات الوحدة الوطنية والأخوة الإسلامية، وإنما عن تشخيص دقيق وعلمي سبق أن أشرت عليه في كتاب بقية الصوت الصادر عام 2000، عندما قلت أن لا خطر من انقسام سني شيعي في المجتمع العراقي، ما دام أبو حنيفة والشافعي أمامي أهل السنة في العراق، وما دام الشيعة الأمامية، هم أهل التشييع العراقي، وكانت مدينة أبي حنيفة نموذجاً للتحضر الإنساني والمدني التي يقصد السكن فيها الشيعة قبل السنة.

ما قلته في بقية الصوت، يمكن الرجوع إليه لكي لا يكون كلامي هنا مجاملة أو تبريراً أو تستيراً، فسنة العراق حكموا 80 عاماً، وكانوا رغم تهميشهم لمواطنيهم الشيعة عنواناً حضارياً، وهم الذين قادوا العلمنة الأولى والعلمانية، وأبدوا روح التسامح مع الغرب، وخرجوا من التزمت التي كان يتهم بها بعض فقهاء التشيع العراقي، وحتى

في المعارك الشعرية التي خاضها دعاة السفور والحجاب، فقد كان معظم السفوريين من أهل السنة، ومعظم الحجابيين من أهل التشيع.

 

 

 

حتى لا تمـوت العــروبة.. انســوا القـومية العـربية

 

 

 

س : إلى أي مدى سيصمد المشروع القومي والذي خرجت منه في العراق الأمريكي، والغلبة كما نرى للإسلاميين ولو كان زعيمهم الزرقاوي، والقوميون يمشون وراء الإسلاميين أو يحتمون بهم؟

 

ج : عتقد أن المشروع القومي العربي في العراق، يتحمل المآلات البائسة التي وصل إليها العراق ووصل إليها القوميون في المنطقة.

إن المشروع القومي فقد القدرة على التأثير في المجتمع العربي، لارتباطه بالسلطة ولم يستطع القوميون العراقيون الذين خرجوا على السلطة وعارضوها، أن يبنوا مشروعاً قومياً ينسجم مع مقتضيات العصر، ولم يكن دورهم مؤثراً في ساحة المعارضة، حتى أن منتقدي المشروع يواصلون تسجيل ملاحظاتهم عليه، باعتباره مشروع سلطة دون الالتفات إلى أن شريحة من رجال المشروع القومي هم ضحايا هذه السلطة القومية.

إن المشروع القومي الخارج على السلطة، لم يستطع أن يشكل كتلة متقاربة، فظل متشظياً قابلاً للانشطار الذاتي، وقد أغفل منتقدو المشروع القومي ورجال المعارضة السابقة، الذين استحوذوا على العمل المعارض، أن صفوة النقاء السياسي في العراق هي صفوة قومية. ففي العهد الملكي كانت الإشارة إلى كامل الجادرجي ومجموعته دليلاً على الوطنية الصادقة والعراقة والنزاهة، لكنك ومنذ أربعين عاماً ستقف وجهاً لوجه أمام رجال الحركة القومية، نموذجاً للحكمة والتعقل والاعتدال ونزاهة الروح ونظافة اليد، وفي المقدمة منهم ناجي طالب والمرحوم رجب عبد المجيد والدكتور أحمد الحبّوبي والعقيد عبد الستار عبد اللطيف وصبحي عبد الحميد والدكتور وميض

عمر نظمي الذي نراه هذه اللحظة يتحدث في ندوة مشتركة مع فيصل فهمي سعيد وآخرين من فضائية المنار بلغة تتسع لعالمية العراق وأطيافه المتعددة.

 

س : أستاذ حسن.. هنالك مأزق للمشروع القومي في العراق.. فهل يكفي أن يكون فلان وفلان نزيهاً أو صادقاً.. ماذا يشكل هذا العدد الذي تشير إليه من حجم الحركة القومية المرجوة. وأنت بالذات لم يطوعك الإسلاميون لمشروعهم وأنت تدافع عنهم بسبب جذورك القومية.. أنت تتحدث عن مشروع مهزوم. فلماذا تضع نفسك في هذا المأزق.. أقول هذا كعراقي يعيش الأوضاع الجديدة؟..

 

ج : بلا تواضع أقول إنني عندما خرجت من المشروع القومي، وتفرغت لمراجعته، وأشرت إلى سلبياته، لم أخرج من دائرتي العربية، ولم أجامل الإسلاميين فيما يخص قناعتي، ولعلّي أخطر كاتب يخرج من المشروع القومي، ويضع مشروعاً عربياً بديلاً، لأنني كنت أشعر منذ أربعين عاماً، وفي أعقاب مقتل عبد الكريم قاسم بضرورة إجراء إصلاحات أساسية في بنية المشروع القومي، لكني توصلت بعد خروجي من العراق، إلى الصيغة التي تحفظ هذا المشروع وتخرجه من مأزقهِ، بل ومن هزيمته.

لقد لاحظت منذ عام 1980 وأنا في المنفى، أن الصوت العربي يضعف في المعارضة العراقية، أمام قوة الصوت الإسلامي والصوت الكردي. ثم الشيوعي، وهذه التيارات لا تتصل بوشيجة ود مع المشروع القومي العربي. وليس لك أن تجبر الإسلامي للإقرار بالتقسيم القومي بدلاً من التقسيم الأممي للإسلام، وهو الموقف الماركسي نفسه. وليس لك أن تفرض على الكردي قوميتك العربية، ولا أن تتوقع منه مجاملة لهذا الاسم.

الحل ربما احتاج مني إلى مهارة عقلية وسياسية وإعلامية، باستبدال مصطلح القومي الذي تناهضه هذه التيارات، لتعارضه مع إيديولوجياتها بمصطلح العربي لتكون العروبة بدلاً من القومية فهل يمكن للإسلامي أن يجردني من العروبة إذا جاز له أن يجرد نفسه (شرعاً) من القومية. وهل سأترك فرصة للماركسي بانتقاد (العربي) بمثل فرصتي بانتقاد القومي؟

إن العروبة كالكرودة، هوية وثقافة وانتماء، وهذا يعني إجراء عملية فصل التوأم الوهمي (القومية العربية والعروبة) وهما جسمان لا ينتميان إلى بعضهما، وإنهما ليسا واحداً كما هو شائع إلاّ بمفهوم سيامي!!.

وفي هذا السياق كرسّت جهدي في أكثر من كتاب، وفي عشرات الأحاديث والمحاضرات والمقابلات التلفزيونية، على ضرورة أن يسارع الكتاب ورجال المشروع القومي، لإسناد هذا المشروع وتطويره وتقديم مشروع عربي تحتل فيه العروبة وليست القومية العربية مكانها في الاجتماعات إلى جانب الإسلاميين والشيوعيين والأكراد، ومن منهم قادر على المساس بالعروبة إذا كان قادراً أن يأتي بالكثير من الأفكار والملاحظات ضد الفكرة القومية.

إن العروبة (جعل آلهي)، وهذا يعني بلغة إسلامية كل ما ورد في القرآن الكريم، من آيات تتضمن الفعل (جعلنا) أو (نجعل) واشتقاقاته عندما تصدر على لسان الله سبحانه وتعالى.

وهو القائل (وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا) فأنا ما اخترت العروبة، وإنما اختارها الله لي كما اختار الكرودة للبارزاني والطالباني والفروسة للخميني.

وفي الفقه لا يجوز التلاعب بالجعل الإلهي وتغييره، وأن الجعل الإلهي لا يستبدل برغبة البشر، ولا أحد ينزع عني العروبة، لأنه سيمس الإرادة الإلهية، كما لا يجوز تحويل الكردي إلى عربي لنفس السبب.

ومن هنا، أسمح لنفسي بإصدار فتوى لم يصدرها العلماء، هي أن التعريب حرام إذا أ جبر عليه الإنسان، إلا إذا غيّر الناس انتسابهم واستبدلوا هذا الانتساب بإرادتهم، أو نشأوا في مجتمعات غير مجتمعاتهم وانسجموا معها.

والعروبة هوّية وثقافة وقد تكون القومية عنصرية، لأنها مشروع سياسي، ولعل مصطلح القومية مستورد ولا وجود له في قواميس العرب وثقافاتهم، وإنما انتقل إلينا حديثاً حتى أن رجال عصر النهضة العربية كانوا يسمونه الجنسية العربية. لأن مفردة القوم تعني جماعة الرجل.

أن القومية مشروع علماني خالص لا يقبل الاقتراب من الدين، أي دين، فيما العروبة قد تكون مسيحية وقد تكون يهودية أو إسلامية.

وكان النبي محمد عليه الصلاة والسلام عربياً ولم يكن قومياً.

على هذه الأسس، يمكن لي أن احتفظ بوجودي العربي، في خضم غير عربي، وأقطع أية حجة مثلما أقطع الطريق على هؤلاء الذين يحاربون العروبة ويشتمونها ويهجونها بحجة أنها القومية، ومن شتم العروبة يشتم محمداً ويشتم القرآن ويشتم آل محمد والصحابة، كما يشتم امرؤ القيس والأعشى وهم يعتقدون أنهم يشتمون ميشيل عفلق، أي يشتم أمة ولا ينبغي للقوميين أن يمنحوا هؤلاء فرصة التعريض بأمتهم عندما استبدلوها بالقومية العربية.

إنني في هذا المشروع، أضع حداً للتجاوزات في العراق الأمريكي، ضد العروبة، وأمنع التشهير بها لأن نظاماً دموياً وعنصرياً رفع شعاراً قومياً. إن العروبة أكبر من المشروع القومي الذي يمكن اختزاله بعدد من الكتب والكتابات، وتحديد أهدافه وتسمية رجاله وعمر المشروع القومي العربي لا يساوي واحداً بالمائة من عمر العروبة الذي يمتد في الماضي السحيق، ويمر على القرون والأجيال على صورة نبي أو بلغة قرآن أو بمعلقة جاهلية أو بمدرسة من مدارس النحو واللغة في الكوفة والبصرة.

لقد أخرج المشروع القومي العربي الكوفة عاصمة العروبة والبصرة عاصمة العروبة واستبدلهما بـ(بروسيا) مثلما استبدل ابن خلدون والمعري بكافور وغاريبا لدي. إن المشروع القومي تغريبي غارق في التغريب، والعروبة أمة شرقية وتراث شرقي.

 

 

 

يتبع ..

 

 

 

الـقـسـم الثالث

 

 

 

رجـــال المشــروع الأمــريكي

 

 

 

س : من هم رجال العراق الأمريكي؟

 

 

 

ج : هم أكثر من جيل. وأكثر من حزب.

 

هم يسار ويمين. حزبيون ومستقلون اشتراكيون ورأسماليون، قوميون، ولا قوميون وإسلاميون وعلمانيون.

 

هم وأكرر نفسي ـ من اشترك أو أيدّ إعدام العراق العراقي وزعيمه وثورته ورجاله الخلص.

 

هم من تسببت سياساتهم الأحادية والطائفية والعنصرية، في جعل العراق حالة غريبة في المنطقة.

 

هم الثورات والانقلابات والحروب، والقيادات العامة، والمنظمات السريّة، ما بين 9 شباط 1963 و9 نيسان 2003.

 

استثني منهم رجال المرحلة الناصرية، أما إذا أردت أن تعتبر أحمد الجلبي وإياد علاوي والشريف والبارزاني والطالباني ومجلس الحكم ووزراء برايمر وما بعد برايمر والإسلاميين الذين ذهبوا إلى أمريكا، فهم أيضاً رجال العراق الأمريكي، لكنهم لم يكونوا مؤسسين. إنهم ربما حصدوا نتائج تلك السياسات وجهود هؤلاء (الرجال)

 

فصاروا وكأنهم الوجه الأمريكي في العراق.

 

لا بأس ـ أنت وأنا، محسوبون على رجال العراق الأمريكي.

 

إنهم ليسوا أشخاصاً بعينهم بقدر ما هم حالة وظاهرة.

 

 

 

س : هل تتمنى أن تتكرر هذه الظاهرة في مناطق أخرى؟

 

 

 

ج : «ذهبنا إلى سعد ليجمع شملنا فشتتنا سعد فلا نحن من سعد» *

 

 

 

س : وما قصة شاهدك هذا؟

 

 

 

* بيت جاهلي، وسعد هو اسم لصنم، وكان جمع من العرب قد اختلفوا، فلجأوا إلى الصنم ليوحد شملهم، لكنهم تنازعوا عند أقدام الصنم فذهبت ريحهم. اتركه يتحدث عن نفسه

 

 

 

ج : العالم العربي مشغول بالمشروع الأمريكي، منذ الاجتياح الأمريكي للعراق، وقيام ما تسميه أنت بالعراق الأمريكي.. متى تعتقد ولدت فكرة هذا المشروع الذي جاء باتفاق المحللين بعيد أحداث 11 سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة.

 

سأختلف مع القائلين أن الاجتياح الأمريكي يرتبط بتداعيات 11 سبتمبر.

 

يحضرني في هذا المجال، رأي نشرته في المجلاّت والصحافة العربية ودونته في أحد كتبي، وهو جواب على سؤال مماثل عن الاجتياح العراقي للكويت، وما قلته في هذا الاجتياح، يصلح أن يكون قاعدة تاريخية للاجتياح الأمريكي.

 

أن الكويتيين كرسّوا جهودهم وأفكارهم ونشاطاتهم، حتى في كتابة تاريخ الاجتياح على الاجتياح نفسه، وهو لحظة عسكرية محضة، وتنفيذ قرار عسكري، يتصل كما أعتقد بأيديولوجيا الضم التي تمتد في العراق إلى منتصف الثلاثينات الميلادية.

 

إن الغزو الأمريكي كذلك هو ليس اليوم الذي يكتب تاريخاً بدخول القوات الأمريكية بغداد أو في سقوط النظام في 9 نيسان 2003.

 

إنه ليس نتاج لحظة رحمانية أو شيطانية، جمعت أشخاصاً من المعارضة العراقية، مع مسؤولين في الكونكرس والخارجية والأمن، ليخرجوا منها متفقين على برنامج إسقاط النظام الذي تعارضه هذه الشخصيات العراقية باجتياح عسكري أميركي.

 

لو كان كل معارض يحظى بتأييد أمريكي، ثم يتحول هذا التأييد إلى عمل عسكري ضخم لإسقاط النظام السياسي، لكانت أول تجربة ستتم أو ستنجز في كوبا المجاورة للولايات المتحدة، حيث تقيم المعارضة الكوبية المنظمة والواسعة هناك منذ أكثر من أربعين عاماً.

 

ولكانت حركة مجاهدي خلق الأكثر تنظيماً وإقداماً، قد شكلت مجلس الحكم لإيران الأمريكية، منذ عشرين عاماً.

 

ولكانت المعارضة الليبية قد سبقتنا بثلاثين عاماً لإقامة ليبيا الأمريكية.

 

إن ظهور العراق الأمريكي في 9/4/2003 هو ليس أول ظهور بقدر ما كان يوم ولادة سبقته مخاضات معقدة، ولعلنا عشناها لا متفرجين أو محايدين بل مشاركين.

 

فمنذ انتهاء العراق البريطاني يوم 14 تموز 1958 وقيام العراق العراقي لأول مرة، وتجميد العمل بتمذهب الدولة، ونقل بغداد من أحاديتها المقرفة إلى عالميتها العباسية الرحبة، وتعرض الحكومة العراقية المحايدة عنصرياً ودينياً وطائفياً إلى محاولات يومية قادمة من غرب العراق وغرب العالم انتهت يوم (9) شباط 1963 بإعدام العراق العراقي زعامة وحركة وطنية وحزباً ديمقراطياً، وليس لك أن تتسائل كيف أسقط نظام سياسي كان أتباعه أكثر من خصومه، وقوته العسكرية باعتباره محمياً بالجيش العراقي لا تساويها قوة ميليشيا ناشئة معزولة باسم الحرس القومي، فيسقط الجيش والنظام بيدها.

 

إن زعماء الحزب الذين ساهموا في حركة إعدام العراق العراقي، هم الذين أجابوا على هذا السؤال بشجاعة لم يتحل بها نظرائهم في الأحزاب العراقية.

 

أما واحد مثلي، عاش مع الحزب منذ منتصف الخمسينات بصفة (مراقب) فإنه ربما التقط الكثير، واحتفظ بالأكثر من الشهادات والأفكار التي قد تؤيد ما ذهب إليه زعماء الحزب ممن خرجوا عليه في وقت مبكر.

 

ولا أتردد في القول هنا، أن الغزو الأمريكي للعراق، هو لحظة عسكرية تشبه غزو الكويت، تسبقها أربعون عاماً كشفت عن علاقة ما بين 9 شباط و9 نيسان 2003، وهي علاقة توالد وتراحم وانتساب، ولهذا وبدون مقدمات فضفاضة أقول، أن الحجر الأساس للعراق الأمريكي، وضع في يوم 9 شباط 1963 في أستوديو الإذاعة العراقية، ومرت الأربعون عاماً بمراحل وحكومات وبأحزاب ورجال، قد لا يكونون شركاء في بناء العراق الأمريكي، إنما هم شركاء في القضاء على العراق العراقي. وإذا كانت بعض المراحل التي حكم فيها القوميون العرب بنقائهم الناصري، ووطنيتهم العربية، فترات داخل هذه الأربعين عاماً، فمن المعروف أنهم لم يكونوا جزءً ولا

 

طرفاً ينافس المركز الأول المتمثل في حزب 8 شباط و17 تموز وبزعامته التي برمجت الأوضاع وهيأت الظروف لإنضاج وقيام العراق الأمريكي. ربما تحدثنا عن تفاصيل العراق الأمريكي من زوايا مختلفة، وبعفوية كما ترى، أما إذا كنت تبحث عن نبوءة للمستقبل فلنقرأ في فنجان العراق الأمريكي. إن العراق سيكون فيدرالياً وديمقراطياً، وقد غادر مرحلة تاريخية ليس لأية قوة سياسية أن تعيده إليها. لكني أفكر دائماً بالخبرة السنية الهائلة في صناعة السلطة وإدارتها، ممّا يدفعني إلى مجاهرة الفئات العراقية الأخرى، بضرورة أن لا تتعامل مع السنة باعتبارهم رقماً سكانياً. وأن لا تخضع مشاركتهم في السلطة إلى نسب رياضية، وأن لا يغتر طرف لا سيما الشيعة بحجم التصويت الانتخابي، لأن السنة قد يرون أنفسهم أمام وضع صعب في قبول حكم الأغلبية المطلقة، وقد يتعرض العراق إلى الانقسام برغبة سنية هذه المرة، وليس برغبة الدكتور أحمد الجلبي والسيد باقر ياسين في إقامة إقليم الجنوب قبل أوانه.

 

وتلوح أمامي، خطوط لأفكار، قد تكون الأطراف السنية والإقليمية فكرت أو ستفكر بها، لتوسيع الجغرافيا السنية في الفيدراليات المقترحة بضم ما يتعارفون عليه بإقليم بغداد إلى هذه الفيدرالية، وجعله يمتد إلى محافظة ديالى، حتى الحدود الإيرانية، فيما يرتبط ذراعه الغربي بالحدود السورية عبر الفلوجة والرمادي والقائم.

 

ولهذا ألاحظ، أن عمليات التفجير والذبح، تتركز في مناطق بغداد المختلطة، إذ تقبل المناطق المختلطة فكرة التحول إلى مناطق متجانسة وأحادية ومغلقة، وهو ما يسمونه الآن بالتطهير العرقي، أو المذهبي فيما هو أقرب إلى التقذير منه إلى الطهر والطهارة.

 

ومن شأن عملية كهذه، أن تنتمي إلى إقامة جدار سني عازل، من خانقين حتى الحدود السورية والأردنية.

 

أما توسيع جغرافيا الفيدرالية السنية، فهو واضح في عمليات ذبح طائفي، تبدأ من اليوسفية والمحمودية واللطيفية والإسكندرية إلى مشارف الحلة الشيعية، والمدائن ومشارف الكوت، وقد لا تعترض أمريكا على نتائج قد يحققها السيافون بدلاً من السياسيين والزرقاوي القادم من الجوار الإسرائيلي بدلاً من ديمقراطية كامل الجادرجي وحسين جميل وصديق شنشل وفائق السامرائي وسلامة الطوية للرئيس محمد عبد الرحمن عارف من قادة السنة في العراق.

 

والجوار العراقي، قد يرتاح لرؤية جدار كهذا، وسينسى الناس ضحاياهم، مثلما نسوا مليون ضحية في القادسية، وهناك دول ستكون سعيدة برؤية العراق متشظياً مثل قطعة جبن تتسابق عليها القرود.

 

ومن شأن جهد تقوم به السواطير، أن يمنع ظهور الهلال الوهمي، وقد تكون رؤية الهلال بشهادة مُزوّرة هي بمثابة الإعداد النفسي لإقامة هذا الجدار.

 

لقد قيل في رسم الحدود العراقية مع الكويت والسعودية، أنها جاءت بضربة قلم خاطفة من برسي كوكس وأقول الآن بأن ضربة سيف خاطفة من الزرقاوي، ستقطع العراق من طريبيل حتى خانقين. وبهذا يتخلص السنة من حكم الأكثرية، ويتشكل الخط العازل بين الشيعة والأكراد، بخط عازل لا شيعي ولا كردي.

 

في مثل هذه اللحظات، ينفجر سري وأشعر بعذاب داخلي وأراجع حجم شراستي ضد أفكار كان السعوديون ورجالهم من العراقيين يطرحونها لإنهاء صدام حسين بانقلاب عسكري تراعي فيه السلطة الجديدة التوازنات الطائفية.

 

لو اعتمد الانقلاب لإسقاط صدام حسين لربح الشيعة والسنة ولحُشر قادة الانقلاب خمسة آلاف حزبي متورط بجرائم إنسانية في معسكرات معزولة وتركهم يموتون عرياً.. دون أن يتهمهم أحد بالطائفية وكان يمكن لهذا الدور أن يقوم به كثيرون ممن لم أتفق معهم كوفيق السامرائي وإبراهيم الدواود وعبد الغني الراوي ونزار الخزرجي وعبد الأمير عبيس.

 

 

 

س : ألا ترى أن الأحداث تتوالد والأيام تنجب بعضها بما تحمل من واقع وبطريقة تنفي فكرة المؤامرة؟

 

 

 

ج : إن الواقع قد يكون هو المؤامرة. وقد ترسم المؤامرة على أثر أحداث ميدانية، لم يكن للمؤامرة دور في صناعتها، وهذا الذي يحدث في العراق هو توالد ذاتي وتطور موضعي، أما دور الدول الكبرى فإنها كدور الوليد بن طلال مرة ثانية، ألا ترى جغرافية الفيدرالية السنية الآن هي الأكثر خراباً ودماراً فيما تزهو مدن التشيّع إما بقوانين جون لوك، أو بلمسات الإمبراطور هيروهيتو.

 

 

 

س : ولو صدقت الرؤيا ورسمت الخارطة على صورتها فأين ستكون حكومة المركز؟

 

 

 

ج : يبدو وكأن التقسيم هنا لمصلحة السنة، فيما كان المعروف أو المتداول في الصحافة أن التقسيم لصالح الشيعة.

 

لا توجد أكثرية في العالم تطالب بالتقسيم، لأنها تمتلك البلاد بأكثريتها الدستورية، فلماذا ترضى بمقطع أو قطعة أو بجزء من السكان، وعندها فرصة أن تحكم كل البلاد؟.

 

أعتقد أن المتصدين للعمل السياسي الشيعي وقد أمسكوا باليد وبما لا يقبل الطعن والشك، أغلبيتهم الكبرى في الانتخابات البرلمانية النزيهة، خضعوا لما ذكرته آنفاً من شعور لحكم كل العراق حتى أن بعضهم فكر بالالتفاف على مقررات مؤتمرات المعارضة، وما أكدّه قانون إدارة الدولة من اعتماد النظام الفيدرالي مما دفع الأكراد إلى

 

التهديد بعدم التحالف معهم، ولم تكن عبارة (عراق اتحادي) قد سقطت بخطأ مطبعي عند أداء حكومة الجعفري اليمين الدستورية، وإنما تحت هذا الشعور الذي أشرت إليه.

 

 

 

س : يبدو أنك غير متفائل من إمكانية قيام وحدة وطنية، وأن تقوم الوزارة بواجباتها كفريق واحد؟

 

 

 

ج : إذا لم تحل الإشكالات الراهنة، فليس من المتوقع رؤية وحدة وطنية في العراق، إلا إذا اقتنع كل فريق بنصيبه الفيدرالي قناعة ذاتية، وأخذ يعمل لتطوير ولايته، ويتنافس مع الآخرين في هذا المجال. وأظنه الطريق الوحيدة لسيادة إحساس لدى السنة، بأن لا يكونوا الطرف المغبون وهم يرون المدن الشيعية والكردية، تتقدم بوتائر نمو عمراني واجتماعي وتعليمي فوق معدلات النمو في المدن السنية.

 

كم هو جميل أن يصبح التنافس بين السنة والشيعة، على غرار التنافس بين اليابان والأمريكان، وألمانيا وفرنسا، وكالتنافس الحاصل بين الإمارات العربية المتحدة.

 

إن الصراع من طبيعة الحياة البشرية، ولا ينبغي التطير من الكيانات الطائفية والعرقية، فأنا شيعي شئت أم أبيت أنكرت أم اهتديت تبرأت أم توليت، وزوجة ابني التي قدمت لنا الشاي قبل دقائق سنية أسفرت أم تحجبت.

 

 

 

س : كيف كانت علاقة العراق البريطاني بالسنة، وكيف ستكون علاقة العراق الأمريكي بالشيعة؟

 

 

 

ج : أخلصت بريطانيا لتعهداتها مع السنة حتى النهائية، ولم يحدث ما يشوب هذه العلاقة، كما الحكومات السنية لتعهداتها مع بريطانيا التي انتبهت بعد حركة مايس (حركة رشيد عالي 1941) إلى خطأ اعتمادها على السنة وحدهم، فأخذت تلوح للشيعة بإمكانية التعاون المشترك وتعويضهم عن بعض ما فاتهم. وهذا هو الذي دفع السياسي الشيعي الكبير صالح جبر، إلى التقاط الإشارات البريطانية وعرضها على زعماء الشيعة الذين أحالوا الأمر إلى مراجع الدين كان (الخمسة الكبار منهم (أبو الحسن الأصفهاني ـ محمد حسين كاشف الغطاء ـ عبد الكريم الجزائري)) قد أيدوا حركة الكيلاني، وشجعوا القبائل الشيعية، على المشاركة في العمليات العسكرية ضد بريطانيا، ولهذا رفضت مقترحات صالح جبر بأن يحل الشيعة بدلاً عن السنة، أو أن يكونوا شركاء متكافئين مع السنة في إدارة العراق. وعندما كنا في المعارضة، كان البريطانيون يشجعون واشنطن على فتح حوار مع السنة، أما العلاقات الأمريكية الشيعية، فلن تكون على هذا المستوى من النقاء وسلامة الطوية، وقد لا يعطي الشيعة بيعتهم أو إجماعهم ويخلصوا الود مع أمريكا، ولا هذه ستطمئن لمبايعة الشيعة، وهي تستلم التقارير الدبلوماسية مع المحيط العربي والإسلامي، بأغلبيته السنية المطلقة تحذرها من خطر التحالف مع الشيعة.

 

الواقع أن الأمريكان لا يحتاجون إلى من يثير نخوتهم، فالتقارير الإسرائيلية لها الصولة البكر في العمق الاستخباري والدبلوماسي لأمريكا، وهي تدور حول خطر إيران الشيعية التي تمتلك 60 مليون إنسان، ربعهم قادرون على القتال، حتى مشارف الجنة. وهؤلاء لا يقلون خطراً عن البرنامج النووي المرعب.

 

تشاء المقادير، أن يكون معظم المتصدين للعمل الشيعي، على صلة طيبة مع إيران، وأن لا يكون لرجال أمريكا من الشيعة الذين هم خارج النفوذ الإيراني، دور مؤثر مماثل، وهو ما تستثمره في قلوب الأمريكان.

 

إن بعض ما يحدث في العراق، هو ليس صراعاً شيعياً سنياً أو صراعاً ضد أمريكا، أنه قد يكون صراعاً على أمريكا، وها نحن نتوقف الآن في تمام الساعة السابعة 16/5/2005 لنستمع إلى خبر عن ترحيب رئيس ديوان الوقف السني العراقي عدنان الدليمي، بتصريحات وزيرة الخارجية الأمريكية التي أكدت فيها ضرورة مشاركة السنة مشاركة فعلية في السلطة، وبدأت كتابات على الانترنيت ترحب بهذه الخطوة الطيبة لهذه المرأة، وقد تدفع الغيرة وروح التنافس السيد حسين الشامي رئيس الوقف الشيعي فيكتب قصيدة عصماء للوزيرة الأمريكية يذكرها فيها بالحبيب الأول.

 

 

 

س : هل تتوقع على ضوء المذابح أو حفلات الموت التي تقام ضد الشيعة ظهور زرقاوي شيعي؟.

 

 

 

ج : لا يوجد في الفقه الشيعي، نص يجيز قتل الآخر سنياً أم ذمياً، ولم يحصل في تاريخ التشيع، أن صدرت فتوى تبيح هدر دم المسلم في المذاهب الأربعة، لكن توجد نصوص فرعية تجيز قتل قطاع الطرق أو المجرمين الذين يقومون بأعمال الذبح والاغتصاب وما سوى ذلك، ويُعدها فقهاء التشيع من حالات الدفاع عن النفس لكن هنالك الكثير من الفقهاء والعلماء وعلى مر القرون من أهل السنة من أصدروا فتاوى تجيز قتل الشيعي بمسوغات فقهية يضعونها ويتعاملون مع أهل التشيع تعاملهم مع أهل الارتداد.

 

وإلى أسابيع مضت صدرت فتوى من علماء في السعودية تجيز قتل الشيعة وهنالك فتوى للفقيه العالم الشيخ يوسف القرضاوي أجازت أو شجعت أو بررت على الأقل قتل الشيعة.

 

هذا جانب، الجانب الآخر فإن الشيعة خاضعون الآن لنفوذ مرجعيتهم التي لا تريد أن تنسحب إلى حرب أو فتنة ربما تجد منظمات ذات طابع إسلامي فائدة في الدخول فيها.

 

والعامل الثالث الذي يجعلني أستبعد ظهور زرقاوي شيعي، هو الشعور العام، أو الإحساس الذي يسيطر عادة على الأغلبيات السكانية والوطنية والتي لا تميل إلى الاغتيال أو العنف، ما دام صندوق الاقتراع يوفر لها ما لا يوفره صندوق الديناميت للأقليات في مجتمع ما.

 

وهذا لا يمنع احتمال أن يظهر أكثر من زرقاوي شيعي، بعد أن تحول ذبح الشيعة إلى إهانة شخصية لكبريائهم وإنسانيتهم، وقد يخرجون على مرجعيتهم وعلى صندوق الاقتراع فيتكرر مشهد الذبح على طريقة الزرقاوي لدى منظمة شيعية سرية.

 

ولا أستبعد ظهور منظمات شيعية، إن لم تستخدم أسلوب الإغارة وقطع الطرق، فإنها على الأقل ستتسلح بموقف دفاعي يطول المساحة الدفاعية إلى هامش الاحتراس الأمني، مما يعني أن ضحايا سيسقطون.

 

 

 

 

 

 

 

الـقـسـم الرابع

 

 

 

السـني العــربي والســني العــراقي

 

 

س : هل ترى فرقاً بين السني العربي والسني العراقي، اللذين قد يشتركان أو يتهمان بأعمال الذبح والانتحار!!؟

 

ج : إن الفرق بين السني العراقي والسني العربي، هو كالفرق بين الشيعي العراقي والشيعي الإيراني..

وكما تتذكر، فإني كنت أصر في أحاديثي وتصريحاتي، على أن عمليات التفجير التي تبنتها الحركة الإسلامية العراقية في بغداد، أنها لم تكن من صنع الإسلاميين العراقيين، فالشيعي العراقي كالسني العراقي، لا يفكر بالانتحار، حتى لو كانت الجنة تحت قدميه، فاعترض عليَّ إعلام الحركة الإسلامية قبل أن يقر الإسلاميون العراقيون الآن، أن عملية تفجيرية واحدة أو اثنتين فقط وجهت ضد مؤسسات رسمية في بغداد في تلك الفترة كان منفذها عراقياً.

وأقول في العمليات الانتحارية السنية ما قلته في العمليات الانتحارية الشيعية، أنها ليست من فعل العراقيين.

لكن العراقي قد يشترك في أعمال الذبح، وهذه قسوة على الآخر، وليست لديهم قسوة على النفس.

إن السني العراقي في خلايا الدم العاملة حالياً، قد يكون مرتبط المخيلة نحو مشروع سلطة استحوذ عليها الأمريكان بالقوة ومنحوها للشيعة والأكراد، وهذا طريق قد يتقدم الماشون به أو يتقهقرون. فيختلفون ويساومون، ويتفاهمون حسب قوانين سياسية قابلة للاحتمال وعكسه، وقد تستخدم طرق لا تأتي على بال وإن هي معروفة في ميدان السياسة، لاستعادة الدولة التي كانت تدر عليه بالمواقع السيادية والعسكرية والدبلوماسية بنسبها المطلقة.

إنه يشعر بالخسارة، وعليه أن يعوضها، أما السني العربي، فقد استقدم إلى العراق حاملاً نيته الصافية، وإخلاصه لمعتقده الإيديولوجي، خازناً في صدره فتاوى شيوخ الإسلام في استباحة دم المرتد.

والشيعي عند هؤلاء الشيوخ في مقدمة المرتدين.

إن السني العربي دخل العراق لكي يموت، لم يأت باحثاً عن عمل ولا مطالباً بسلطة ضائعة، ولا راغباً بالقصور، ولا مقاتلاً من أجل عيني المرحوم ميشيل عفلق، إنه مسكين استثمروا فقره وعقيدته وثقافة جعلته ينبذ الحياة الدنيا ليقيم في خلايا الدم.

وعند تقسيم مسؤولية الذبح داخل خلية الدم عليهما، يظهر الفرق بين كل منهما، فالسني العراقي يأخذ على عاتقه مسؤولية ذبح الرهينة، ويأخذ السني العربي مسؤولية ذبح نفسه، وتمزيق جسده، لكي يمزق الأجساد الأخرى.

والضحية قد يكون أكثر فقراً وعوزاً من هذا المستقدم، وقد يكون في صلته مع الله ونبيه وقرآنه صميمية وحارة مثل قاتله، سوى أنه لم يثقف من علمائه بقتل نفسه، حتى يقتل الآخرين معاً.

إن السنة العرب، ومعهم الزرقاوي، تشخص عيونهم على حقول الجنة الخضراء يغذون إليها السير متنافسين، أما زعماء السنة العراقيون، فعيونهم على المنطقة الخضراء.

لا يفوتنا أن السني العامل في خلايا الإرهاب والمقاومة والجهاد، سيفترق فريقين عن بعضه، فريق العرب في محفل الشهداء، والعراقيين في محفل الوزراء.

ولك أن تفسر على ضوء هذا التقسيم، معاناة الزرقاوي وجماعته من الفريق الآخر، بتصريحه اليوم 17/5/2005 بتحذير السنة العراقيين من الدخول في لجنة كتابة الدستور، ومساومة كونداليزا رايس.

فكيف ستنتهي الحال.. هل بانتصار فريق السلطة والدولة الذي سنراه في صورة تذكارية على أبواب القصر الجمهوري في المنطقة الخضراء، وتسليم الزرقاوي وجماعته من السنة إلى (العدالة الأمريكية) أم أن يسارع الزرقاوي، فيضرب ضربته بطريقة (عليّ وعلى أعدائي يا رب).

 

 

 

اســـتقـدام الــزرقـاوي

 

 

 

س : ندري أو لا ندري أخذتنا أستاذ حسن وأخذنا هذا العرض إلى (أبو مصعب الزرقاوي)، هل نتوقف للتعرف على الزرقاوي؟

 

ج : تسميه الفضائيات السنية بالإجماع، زعيم بلاد الرافدين، وتضع عبارة تنظيمه القاعدة بين شارحتين!.

والصحف الخائفة في بغداد تسمية المتشدد، والصحف المتضررة تسمية الإرهابي.

وهو يعتبر نفسه مسلماً ملتزماً بمواعيد الصلاة الخمسة، وصيام رمضان وحج بيت الله وتلاوة القرآن بكرة وأصيلاً.

أرسل الزرقاوي إلى بلاد الرافدين، أو أستقدم بطلب محلي، ودخل المدينة حاملاً (14) قرناً من فتاوى التكفير، وهو تلميذ في هذه المدرسة، يستخدم الأدوات (الشرعية) في القصاص!

وما دام قصاص المرتد هو القتل، فالقتل بالمفهوم الفقهي الإسلامي، إنما يتم بقطع الرأس، وليس بالشنق.

والرأس يقطع بالسيف، أو بالسكين على أن يكون حاداً، لكنه قد يخالف الشرع، فيستخدم سكينة عمياء، وكان كثير من الفقهاء والخلفاء من يتباهى بقدرته الفائقة، على قتل الكفار والمرتدين بالسيف، لكن الدولة الإسلامية كبرت، وأصبح السياف موظفاً أسوة بالموظفين.

فلا جديد يحمله الزرقاوي على ظهره، ما دام قادماً من مجامع الفقه الإسلامي الملتزم بتكفير الشيعة والمسيحيين والصابئة، والعراق مليء بهؤلاء، وسيكون للزرقاوي فرص عمل كبيرة في العراق.

أريد أن أقول، إن الأمر لا يتوقف على الزرقاوي، وسيظهر اسم في اليوم الذي يقتل فيه الزرقاوي على صورته، وبذات السايكلوجية، لهذا فإن حل الإشكال في العراق، هو في مؤتمر إسلامي ـ علماني رسمي وشعبي، يواجه فيه حكام الدول العربية كافة، ومؤسساتهم الدينية والتثقيفية والإعلامية، والاتفاق على شيء من مبادئ الرحمة في الإسلام، والأخوة في الدين، والمواطنة الواحدة، ووحدة في الإعلام العربي، تتعامل مع ما يسمى بالإرهاب بنفس واحدة، فلا تسمي القتلة إرهابيين، إذا كان القتيل سعودياً أو كويتياً ثم تسميه مقاومة إذا كان القتيل عراقياً.

إن الإعلام العربي يحث أتباع مدرسة التكفير والزرقاوي أحدهم وليس زعيمهم، على مواصلة الجهاد بأكثر من (700) ساعة بث تلفزيوني يومي و(150) جريدة يومية.

إن الزرقاوي لا يقاتل وحيداً، وإذا ذهب فلن يذهب وحيداً. إنه ابن مدرسة رسمية يعين (مدرائها) بإرادات، ومراسيم أميرية، وجمهورية، وبمناهج تلقن وتفرض على الأطفال في سن الروضة.

 

س : عودة إلى جواب أسبق، يبدو أنك تتخيل صورة وفاق سني - أمريكي في العراق؟

 

ج : هذا من طبيعة البشر، عندما يتعرضون لمخاطر لا يستطيعون ردها، فيستنجدون بالقادرين على ذلك، وليس للمستغيث أن يسأل عن هوية المغيث، وما حدث للشيعة الذين استجاروا بالأمريكان بعد (80) عاماً من حكم أشقائهم الأحادي الشرس، ربما سيحدث للسنة بعد أشهر من انتصار الشيعة وسيادتهم البرلمانية على الدولة.

فقد يستنجدون بالأمريكان، وسترى في وقت قريب زعماء السنة، يقولون ما قاله الشيعة، أنهم ضاقوا ذرعاً من السيطرة الشيعية فلجأوا إلى الأمريكان، ليمنحوهم الدور المطلوب في إدارة الدولة العراقية.

 

س : تتحدث بلغة المرتاح، وبطريقة وبلغة مرتاحة قد أكون شخصياً أعرف جذورها فدعنا نكشفها للقارئ

 

ج : أحاول أن أكون بعيداً عن البلاغة. البلاغة خطيرة وخطرها، أن حجم التعبير عن الأشياء والأفكار يظهر في الكلام البليغ أكبر من الحجم الطبيعي. أو قد يكون أصغر من حجمه الطبيعي بمرات.

فقد يصبح الرجل جبلاً في قصيدة المدح، وقد يصبح نفسه فأراً في قصيدة الهجاء.

البلاغة تنتمي إلى عالم المايكرفون والهاي فاي، إنها استريو وشاشة سكوب.

ولعلي أتشبث بأسلوب أستاذنا الكبير الدكتور علي الوردي،

 

الـقـسـم الخامس

 

 

 

أحـمــد الجــلـبـي

 

 

 

س : توقفنا في دردشتنا ليوم أمس عند أحمد الجلبي وسأنتزع منك شهادةً أو تعريفاً عنه وعن رجال يحتاج قارئو التاريخ في المستقبل ليعرفهم من خلال تجربتك الشخصية وتقييماتك التي تخرج في الغالب عن المألوف؟

 

 

 

ج : التقيت بأحمد الجلبي لأول مرة عندما كنا سعد صالح جبر وآخرون وأنا نصدر ونحرر أول جريدة معارضة للمستقلين والليبراليين في المنفى.

 

عندما دعاني سعد إلى موعد في أحد فنادق لندن فإذا بأحمد الجلبي هناك ولم يكن لي سابق عهد بمعرفته لكني كنت أعرف والده وأشقائه رشدي وجواد وحسن والرائع أن عبد الهادي الجلبي الذي يملك إمبراطورية مالية بعضها موروث عن عائلته، أقام في الوقت نفسه إمبراطورية علمية، ولم يشغل أبنائه بالبيع والشراء ولا باللهو، حيث يلهو أبناء الوزراء والأثرياء، وإنما ربط كل واحدٍ منهم بإحدى أعظم الجامعات في العالم، وقد دخلت عليه في آخر شهور حياته في لندن، وهو محاط بأبنائه رشدي دكتوراه في الاقتصاد الزراعي، وجواد متخصص في الشؤون المالية، وحسن الفقيه الدستوري الذي غاب حتى الآن عن المشاركة في كتابةِ الدستور، وحازم

 

وأحمْد المتخصص في فلسفة الرياضيات.

 

وكان أول سُؤالٍ طرحه عليًّ أحمد في أول لقاء يدور، حَوَلَ كيفية الحصول على نُسخة من كتاب هادي العلوي «الحركة الجوهرية عند الشيرازي» وانطلق يَسرُدُ تفاصيل من هذا الكتاب النوعي الذي قد يكون أحمد الجلبي واحداً من بضعة أشخاص توفروا على فهم عميقٍ واستيعابٍ لهذا الكتاب. وكان قد صَدرَ كتابي «الجواهري ديوان العصر» في ذلك الوقت من عام (1986) وفيهِ تعريض بجدهِ عبد الحسين الجلبي، الذي كان رؤوساء الوزراء السنةِ يفضلونه ممثلاً للشيعة في المقعد اليتيم، لعدم تدقيقهِ في القرارات التي تصدر من قبل الوزراء وفي بعضها أضرار بمصالح الشيعيةِ. فعرفتُ أنًّ أحمد الجلبي كان قد أطلَعَ على كتابي.

 

 

 

س : أرجو عدم المقاطعة لكني أود معرفة ما دار في هذا الاجتماع ولم عُقِد؟

 

 

 

ج : اتفق سعد صالح جبر معي على فكرةِ ترغيب أحمد الجلبي بالعمل السياسي والمشاركة بطريقةٍ وأخرى معنا، في وقتٍ كانت هنالك خلافات بين عائلةِ الجلبي وسعد صالح جبر تتعلق بعدم دعم العائلة المتنفذة في الوسط الشيعي لمؤسسات المعارضة.

 

استعرض أحمد الجلبي في اجتماعنا معاناته في الأردن قبل أزمة بنك البتراء بسنوات طويلة. وما يعانيه من ضغوط لوبي صدام حسين في البلاط الملكي الأردني وبعض رؤساء الوزارات والوزراء ومسؤولي الأجهزة الأمنية.

 

وكانَ متشائماً من صورة المستقبل، وأعطانا أكثر من مثل على تلك الضغوط ‎لتمشية قضايا مالية وتسديد اعتماداتٍ لصالح المسؤولين في السلطة العراقية. نوّه الجلبي إلى أن استثمارهم العامل الطائفي لاتهام الجلبي به إذا ما تأخر عن تلبية طلب معروض عليه لصالح حكومة بغداد. وكشف في الاجتماع عن أساليب تتفق عليها الجهات الأمنية الأردنية والعراقية، لملاحقة معارضي نظام صدام حسين وتسليم بعضهم وإعدامهم في بغداد.

 

وأتذكر أنه سمى شخصاً يدعى السبتي (السبتي: هو عبد الهادي السبيتي ـ أحد قادة حزب الدعوة الإسلامي سلمته المخابرات الأردنية لحكومة بغداد في الثمانينات).

 

عرض عليه سعد أن يحسم أمره قبل تفاقم الأخطار عليه لكنه ترددّ وإن لم يقطع بموقف آخر.

 

أما أنا، فقد عرضت في الاجتماع فكرة تأسيس تجمع سياسي، لضمّ مجموعات من المعارضة، حسب نظام الدوائر وفصلت لهم في ذلك.

 

وقد دهشت أن أحمد الجلبي بعد خمس سنوات على هذا الاجتماع، عاد إلينا بفكرة المؤتمر الوطني وفي تشكيلاته ظلال واضحة لنظرية الدوائر. كما دهشت أن الولايات المتحدة الأميركية وإلى حد ما بريطانيا التي لا بد أن سعد صالح جبر قد عرفهم بأحمد الجلبي استبدلوه بسعد.وكنت دائماً أسأل سعد عن سبب ابتعاده عن المؤتمر وتصدي أحمد له.

 

طبيعي أني أعرف أن جوابه يتعلق بمكانه الشخصي في المؤتمر الوطني، فلم يستسغ سعد أن يكون تسلسله في إدارة أي عمل سياسي ينزل عن المرتبة الأولى.

 

وكان سعد صالح جبر قد أنفق الكثير على عمله السياسي حتى أعلن إفلاسه رسمياً واختفى فترة ثم اكتشفت أن سبب ذلك هو استحياؤه من أن نراه ساكناً في شقة على آخر سطح، كان قد اشتراها لسائقه اللبناني الذي تمرّد عليه وأقام دعوى ضده.

 

فيما كانت قائمة هواتف منزله الذي خصص لعمله السياسي قد تجاوزت العشرة آلاف باون شهرياً. وإذا سألت عن تقييمي لشخصية أحمد الجلبي فقد سبق لي أن أشرت إلى رأيي فيه بحضوره أو في أحاديثي مع شقيقيه الأكثر قرباً إليّ وهما جواد وحسن.

 

أحمد لا يعمل بروح جماعية، ويفضل على طريقة نوري السعيد، أن يفكر وحده سوى أن السعيد كان يشرك معه مسبحته أما أحمد فلا مسبحة ولا تسبيح. ثقافته أعمق من ثقافة أي سياسي آخر، وهو ينقصه حسن الحديث وحسن الإصغاء، ولطالما تحدث إليه البعض وأصابعه تتحرك في مكان آخر فوق كيبورد الكومبيوتر، ولا يملك الصبر على الجلوس مدة طويلةً للحديث أو الاستماع، لا يحمل شيئاً من التراث العراقي، فيما كان سعد صالح جبر بغدادي لم يخرج عن هذا العالم حتى في مفردات نسيها البغداديون منذ خمسين عاماً.

 

وأحمد على العكس من سعد صالح جبر في التمسك بأصدقائه، وعلى العكس منه في أنه يعمل بجدية أكبر من سعد، وبصمتٍ، وأظن ذلك أنه هو الذي أغرى الأميركيين فيه.

 

أحمد الجلبي شجاع في إعلان رأيه، وفي وجوده، وفي حضوره ساعات الخطر. حتى يبدو أقرب إلى المغامر.

 

وله القدرة على استبدال تحالفاته، لكنه لا يستبدل قناعاته، وكنت أتعارك معه كلما التقينا عن شيء يتعلق باحتضاناته وتحالفاته، فتسارع إلى شفته (معليك.. معليك لتدير بال لح تشوف الأمور).

 

وبالفعل كان يستخدم هؤلاء الأشخاص والتحالفات، ويأخذهم إلى مرحلة ثم يتركهم.

 

وسواءً اتفقت معه أم لم تتفق، فإن قانون تحرير العراق الذي استحصله من الكونكرس الأمريكي، لم يستطع أن ينجز مثيلاً له معارض ليبرالي آخر من هؤلاء الذين لجأوا إلى أمريكا خلال المئة عام الأخيرة.

 

وبقدر عجزه وفشله في محادثة العراقيين، فهو بارع في الحديث مع رجال الإدارة الأمريكية. وقد حضرت معه اجتماعات عديدة، كان الجلبي يسحب كرسيّه في مكانٍ ما فيضع ساقه اليمنى فوق اليسرى فيصبح وفد الكونكرس، وكأنهم تلاميذ يصغون إلى أستاذهم احتراماً وإصغاءً وشعوراً بالثقة، وقد يسارع بعضهم إلى ورقة وقلم لكتابة ملاحظاته.

 

لم تكن الصورة كما يتخيلها معظم الناس، ولم يكن الأمريكان يتحدثون وهو مستمع ويملون عليه وهو يكتب. لم يحصل هذا أبداً.

 

وكان صوته يعلو على صوتهم فتذكرت صاحبي صدام حسين عندما يجتمع مع موفد آخر ممن يعتقد صدام حسين أنه قدّم لبلده خدمةً سياسيةً كبيرة، فهو الممتن وهم الممنونون.

 

إن علاقاته برجال الكونكرس والبيت الأبيض والبنتاغون، لا تشبه علاقات معارض أجنبي بدولةٍ أخرى. وقد يقف داخل الإدارة الأمريكية إلى جانب فريق ضد فريق، فيساجلهم في الاجتماعات والأحاديث الخاصة والمعلنة.

 

ربما تكون خطيئته الكبيرة أنه اصطدام مع (السي أي إيه) في وقت مبكر، وأنه كان يتعالى على رجالها الذين هم كأي رجال مخابرات في العالم يشعرون بأنهم صانعو الزعامات.

 

وكانت السي أي إيه تميل إلى فكرة الانقلاب فيقول لهم علناً: أنكم تنفذون الإرادة السعودية وليست الأمريكية، والمشروع السعودي يعتمد على تشجيع ضباط عراقيين على الخروج من مؤسساتهم والالتحاق بالمعارضة لتبرير انقلاب بإشراف السي أي إيه.

 

فيما يستثمر أحمد الجلبي فشل المخابرات الأمريكية في تدبير انقلاب بعد عددٍ من المحاولات.

 

وكان أحمد واثقاً من قدرته على إدارة تحرك شعبي يتوازى مع تحرك عسكري أمريكي لإسقاط صدام، وعدم الاعتماد على الجيش الأمريكي فقط.

 

وهنا حدثت فجوة أخرى، وهذه المرة مع حلفائه في البنتاغون. فاتفقت البنتاغون والسي أي إيه على موقف ضده، وهو الذي ظهر في العراق بعد سقوط النظام، فيما كان الاعتقاد السائد، أن الجلبي سيكون رجل العراق الأمريكي الأول على الأقل، خلال فترة وجود وزارة الدفاع الأمريكية وقواتها في العراق. وقبل أن تتهيأ الظروف لعلاقات عراقية ـ أمريكية محكومة بالأعراف الدبلوماسية وسيادة وزارة الخارجية الأمريكية على غيرها في العراق.

 

كيف يمكن للحلبي أن يعمل أو يحقق أهدافه وهو في خصومةٍ يوميّة مع السي أي إيه والخارجية الأمريكية ثم البنتاغون أخيراً؟.

 

أظن أنه ظل حتى هذه اللحظة يراهن على أصدقائه في البنتاغون، وسيكون مثيراً للدهشة وقابلاً للتكذيب أن أحمد الجلبي عندما يدخل الكونكرس فإن الأغلبية تحييه وقوفاً ولم يتغيّر المشهد كثيراً داخل الكونكرس الأمريكي.

 

 

 

س : لكنّ هذا الدور الكبير الذي تتحدث عنه لم نلمس من أحمد الجلبي شيئاً منه في السلطة؟

 

 

 

ج : أظنك لم تتذكر فقرات ساعتين خصصتها فضائية المستقلة لي متحدثاً عن تجربتي الثقافية وآرائي السياسية عندما قلت أن القائمة التي تنسب للسيد السيستاني هي قائمة الجلبي لا بمعنى التابعية والعائدية والنفوذ وإنما بمعنى الفكرة التي توصل إليها الجلبي للخروج من مأزقه الانتخابي وهو يعرف تماماً أنه قد لا يحصل على مقعد نيابي.. اسمح لي بالاعتراف وأقول أن الجلبي أخرج المتحالفين من مآزقهم أيضاً.

 

ربّما لكن الطريقة التي تمت ليست بعيدةً عن الإسلاميين في اعتماد المرجعية.

 

كان الائتلاف حركة بارعة أعطت نتائجها المثيرة وسيكون دورها في الانتخابات القادمة أكثر وضوحاً سواء كنت إلى جانب الائتلاف أو لم تكن. فأنا لا أتحدث من منطلق الأمنيات الشخصية أو كمنعكس لاجتهاد خاص بقدر ما أرسم رؤية أظنها علمية.

 

ونعود إلى أحمد الجلبي باعتباره رجل أمريكا الأول وقد قلت له مرة إنك قد تكون نوري السعيد الذي لا يحب الناس ولا يحبونه، ولا يحبّ المثقفين ولا يحبونه، لكنه يتحمل انتقاداتهم وملاحظاتهم بصبر وله قدرة على التواصل حتى لم تعد بريطانيا ترى غيره.

 

إن رؤيتي هذه لم تكن صائبة، فالذي حدث في العراق الأمريكي شيء آخر وأحمد الجلبي لم يكن نوري السعيد وأمريكا لم تكن بريطانيا.

 

 

 

إيـــاد عـــــلاوي

 

 

 

س : هل وصلنا إلى رجل العراق الأمريكي إياد علاوي وهل سنتعرف على هذه الشخصية بالطريقة ذاتها ؟ .

 

 

 

ج : لم ألتق بالدكتور أياد علاوي في الفترة ما بين 1980ـ 1990، لأنه لم يكن مشاركاً آنذاك معنا في المعارضة الليبرالية، شأنه شأن أحمد الجلبي. فهما من الجيل الذي اندفع مع سياسة المعارضة العراقية بعد غزو الكويت، فيما كنا نجتمع في عقد الثمانينات مع عمه الدكتور عبد الأمير علاوي ومع الأستاذ عبد الكريم الازري، الذي كان يمد جريدة التيار الجديد، بشهادات ومقالات توقع باسم كاتب عراقي كبير.

 

كان عبد الأمير علاوي طبيب أطفال، التقيته عام 1960 وأنا أحمل إليه ابني الكبير ولا أظن بغدادياً هو اليوم في الخمسين من عمره لم يُحمل طفلاً إلى عيادته.

 

كان وهو وزير في العهد الملكي، يتحدث إلينا بلغة يسارية تقربنا إليه وتبعدنا عن عبد الكريم الازري المهموم في تعظيم دور الملك فيصل الأول، ثم اكتشفنا أن الازري خزانة عراقية للمعرفة والتجربة والحكمة والإخلاص شأنه شأن الدكتور عبد الأمير.

 

التقيت بالدكتور أياد علاوي، عندما زارني لأول مرة في فندق الانتركوننتال في الرياض عام 1991 مع الأستاذ صلاح عمر العلي ومسؤول سعودي، عارضاً علي فكرة المشاركة في تنظيم يبدو لي أنه لا يبتعد كثيراً عن تنظيم البعث، وعندما فهمت أثناء الحديث أن رئيسه ـ أو هكذا تصورت ـ الأستاذ صلاح عمر العلي ـ قلت له، معذرة فأنا منذ أحد عشر عاماً أعيش في سوريا دولة حزب البعث ولا أعرف أين يقع مبنى القيادة القطرية ولا دخلتُ يوماً القيادة القطرية ولا صافحتُ أحداً فيها سوى المهمش في القيادة صديقي الراحل فاضل الأنصاري. وهو عهد قطعتهُ على نفسي منذ خروجي من العراق، وأبلغتهُ إلى الرئيس الأسد شخصياً مما أتاح لي أن

 

أكتب عن عبد الكريم قاسم بلغة وديّة مهاجماً قاتليه وأنا في السنوات الأولى من لجوئي إلى سوريا.

 

فهل أعود إلى مثلها لا وحياة رأسك!

 

وتواصلتُ بالقول وبلهجة طائفية حادّة!

 

أنا لا أعمل في حزب أو تجمع لا أكون فيه سيداً. وإذا كنتُ في العراق من أتباع المذهب المحكوم، فأنا في المعارضة أتصرف باعتباري من أتباع المذهب الحاكم. ولم أضَعْ أي اعتبار للمسؤول السعودي الكبير الذي كان حاضراً، ولعله هو الذي أبلغ فيما بعد المؤسسات التابعة للسعودية أو الممولة فيها بأن لا تستضيفني في برنامج أو تنشر لي مقالة أو تفتح هاتفاً معي.

 

وربما أتخذ هذا القرار بعد وقت. وقد أثرت هذا الموضوع مع القيادة الأولى في الدولة السعودية التي تربطني بها حتى هذه اللحظة وشائج ثقة واحترام وتعاون وتشاور وأنا لا أمثل حزباً ولا طائفة ولم أدّع ذلك. وآخر من أبلغتهُ هذا الإجراء التعسفي هو الأمير تركي الفيصل سفير المملكة في بريطانيا فاستمع إلىًّ بشيءٍ من الذهول.

 

وجرت الأمور هكذا وأنا لا أقترب من حركة الوفاق التي تشكلت في الرياض بزعامة العلي وعلاوي.

 

وفي إحدى الأمسيات بالرياض، وكنتُ مَدعْوَاً في منزل الصديق الطيّب أرشد توفيق الذي تسلَّم مكالمةً هاتفيةً من شخص ما يُخبْره بأنًّ قراراً سيَصدُرُ بفصل الدكتور إياد علاوي ومجموعة من أعضاء المكتب السياسي من حركة الوفاق، وكان علاوي كما أظن مازال على الطائرة في طريقه من الرياض إلى لندن والسيطرة على جريدة بغداد في نفس الأمسية وهو أسلوب مستلخص من تراث المنظمة السرية في العراق، فشعرت بالقرف والاشمئزاز وقررت المجاهرة بإعلان صوتي وكان الجواب المذهل قد صدر من الأعضاء السنة في المكتب السياسي للوفاق الذين بايعوا وتمسكوا بإياد علاوي وتركوا الأستاذ صلاح عمر العلي مع أقليّة من مسؤولي الحركة الجديدة.

 

لكني لم أقترب من حركة الوفاق ولا لغريمتها التي حملت نفس الاسم، وتنازعت عليه وكأنه من الأسماء القدسية.

 

إلاّ أنني لاحظتُ في مؤتمر لندن في كانون الثاني 2002 وكنتُ أُتابع سير الاتجاهات في داخله وكأن العروبة أصبحت كلمة محرّمة، وكأن العراق ليس عضواً في الجامعة العربية، أو كأننا لسنا من جينات قحطان أو عدنان.

 

وكنت أسعى لتجميع العروبيين في المؤتمر، فلم يكن سوى إياد علاوي يحمل هذه البذرة في جذوره السياسية. واجتمعنا بالفعل في لوبي خاص واستدعينا العروبيين سنة وشيعةً إلى حلقات جانبية كان لي فيها دور واضح إلى جانب الدكتور إياد علاوي، لكن المجتمعين تفرّقوا موزعين على جماعات وفئات أو معتكفين على أنفسهم.

 

فانسحبتُ منذَ اليوم الأول من اجتماعات المؤتمر، وأعلنت سبب ذلك في لقاء مع فضائية الـ (A N N) وانتقدت مقررات المؤتمر التي خلت تماماً حتى من ديباجة اجتماعات الجامعة العربية. ولم يُشَرْ حتى إلى العرب كمكون في المجتمع العراقي.

 

وبنفس الدافع بدأتُ أتصلُ بالدول العربية وأستثيرُ حميتها، وقد سُمًّيت مجموعة الستة التي ستقود العمل في المعارضة العراقية بعد سقوط النظام وهم جلال الطالباني مسعود البارزاني وأحمد الجلبي والشريف علي وممثل المجلس الإسلامي الأعلى وإياد علاوي.

 

وشرحتُ لزعماء الدول العربية الذين بإمكاني التحدث معهم، أو مراسلتهم، بأن الوضع العراقي سيكون على هذه الصورة، وعليكم التعامل مع الواقع الجديد برضا، أو بغير رضا واقترحتُ عليهم دعم الدكتور إياد علاوي ليكون رئيساً للوزراء، وأن يدعموا هذا المقترح. قبل سقوط النظام بعام، وكنت واثقاً أن الخيار سيقع عليهِ فأشرتُ على دول عربية ومؤسسات بأن تتعامل معه باعتباره رئيس وزراء قادم وهذا موثق برسائل خطية.

 

 

 

س : وأنا أشارك هذا البعض بالاستغراب نفسه ولذلك أريد أن أعرف كيف توصلت أن الرجل سيكون رئيس الوزراء القادم ؟ .

 

 

 

ج : من خلال هذه الأسماء الستة صار واضحاً أن أول رئيس وزراء للعراق قد لا يكون كردياً أو أن أمريكا سوف لا تُغامر بمثل ذلك، وأن لا يكون وليس في المتوقع أن تبايع أمريكا عالماً أو فقيهاً في الحركة الإسلامية الشيعية لأسباب معروفة، وكان الشريف علي بن الحسين مهموماً بانتخابه ملكاً. ولم تكن ظروفه تساعد على ترشيحه.

 

وكان أحمد الجلبي على خلاف مع معظم الدول العربية، وليس عليه إجماع داخل هؤلاء الستةِ، فلم يبق إلاًّ إياد علاوي، والاتجاه أن يكون رئيس الوزراء عربياً شيعياً علمانياً وهذه متوفرة في إياد علاوي ثم أنه يحظى بأغلبية أصوات هؤلاء الستةِ، وينظر إليه في الإدارةالأمريكية كسياسي مُعتدل لا يثير ظهوره مشاعر الاستفزاز في المجتمع العراقي.

 

 

 

س : أشعر أنك لم تتوقف عند شخصيةِ مثلما توقفت عند الجلبي ؟.

 

 

 

ج : هو قريب أحمد الجلبي، يتحدر عن عائلة وزارية شيعية في العراق الملكي وهو مثله يحمل لقب دكتور ومثله رجل أعمال ومثلَهُ منسجم مع السياسة الأمريكية، وكلٍ منهما في الأبجدية ينتمي إلى حرف واحد، فهذا إياد وهذا أحمد.

 

إياد علاوي يحمل وجهاً طفولياً، يضفي على مشاهديه شعوراً بالطمأنينة والارتياح والثقة وكان هو كذلك طيلة تسلمه المسؤولية، فلم يعد كثيراً ولم يتحجج وكان متوازناً بين فعله وكلامهِ، وقد غلبه التواضع، فلا تشعر وأنت معه بأنك تتحدث مع رجل العراق الأول ورئيس الوزراء الذي يحمل مفاتيح قضاياه الأساسية.

 

لا يحب حضور الاجتماعات، فكان ينيب عنه دائماً من يمثله ليس استنكافاً بل ضجراً من المناقشات العقيمة. ولم يُسجل عليه في تاريخه الحزبي مثلبةً مشينة أو فعلاً أو تصرفاً انفعالياً ضد الآخرين وهذا يعود إلى تربيتهِ العائلية، وانحداره من طبقة برجوازية شبعانة ومالاً وحالاً ووسامة.

 

 

 

س : لكن السؤال الذي يدور هو عن أشخاص في الحكومة الكويتية يمتلكون قدراً معيناً من المناورة بتحويل الكويت إلى معسكر أمريكي ؟.

 

 

 

ج : في السنوات التي كان الوضع الصحي للشيخ سعد العبد الله مريحاً، كان القرار الأهمُّ يصدر عن مكتبه باعتباره أكثر رجال العائلة إصراراً على معاقبة الاجتياحيين الذين اخترقوا حُرمة الكويت يوم 2/ آب 1990 ومن وقف معهم من دول سميت دول الضد، وكان نائبه الشيخ صباح الأحمد يميل إلى مواقف أكثر مرونة بحكم التأثيرات الدبلوماسية عليه كوزير عتيد للخارجية، لكن ذلك لا يعني أن الشيخ صباح المتساهل مع دول الضد سيكون متساهلاً مع دولة الاجتياح ورئيسها وحزبها.

 

وإذا كان الشيخ سعد رجلاً على الطبيعة سريع التأثر بالمشاهد المزعجة، فإن الشيخ صباح يمتلك سايكلوجية كاظمية (أي له قدرة على كظم الغيض) وهذا جانب مطلوب في الشخصيات التي تحمل مشروعات خطيرة.

 

كان صدام حسين لا يحبّ الكويتيين شعباً وحكومةً ومعارضةً وعائلة، ولا يفضل واحداً منهم على آخر، لكنه كان يعتقد أن أخطر شيخ عليه هو سعد العبد الله، ويعتبره مرجع الإنكليز، ويحسب لقدرته الأمنية أكثر من حساب، وحين سألته عن الشيخ صباح قال: هذا عنده شوية عروبة. أخذها من الجامعة العربية.

 

وعندما كنت في الكويت استدعاني الشيخ سعد العبد الله، وكانت الحرب العراقية ـ الإيرانية في أيامها الأولى، فاستعرضت وجهة نظري في أن الحرب «اعتماداً على ما هو معروف من تاريخ الإيرانيين ستطول» وأسررته، بأني قد أختطف أو أقتل غداً وأنا في وضع حرجٍ فإذا قتلت فاعلم أيها الشيخ أني لم أمت على دين صدام حسين، وإنما أسعى لطمئنة الحكومة العراقية حتى يكتب الفرج وتصل عائلتي إلى الكويت، عندها ستسمعني في إحدى الإذاعات السرية متحدثاً عن مشروع صدام حسين لاحتلال الكويت، وهو ما فعلته حال وصولي إلى دمشق.

 

فقال: أستر على نفسك، ايفجروننه تره بعض ذوي النفوس المريضة يفجرونه قنبلة هناك في الكويت بخمسين ديناراً.

 

وحثني على الاستعجال بحفظ حياتي.

 

 

 

فضــائيات ســنية في مـواجـهـة الشــيعة العــرب

 

 

 

س : الإعلام ساحتك ومسبحتك تصول فيه وتجول لماذا لم يظهر في العراق إعلام علمي أو إعلام يتأثر بالإعلام الأمريكي لماذا لم تقم أمريكا إعلاماً أميركياً في العراق؟

 

 

 

ج : طبيعي أنك لا تقصد المحاولة المتواضعة المتمثلة بالشبكة العراقية، أو شبكة الإعلام العراقي، وإنما تريد أن تسأل عن فلسفة الإعلام وأدائه وتجهيزاته ومؤسساته.

 

كتبت في جريدة المؤتمر قبل سقوط النظام بعام، مقالاً عن الأحزاب والإعلام في عراق المستقبل، قلت فيه إن الطابع العام للأحزاب وللصحف والمؤسسات الإعلامية، أنها ستكون كثيرة جداً وصغيرة جداً. بعد أن أخرجت من الأحزاب التيارات التقليدية المتجذرة من القوميين والشيوعيين والإسلاميين. إن الإعلام العراقي مرعوب ولم يعبّر حتى الآن عن إرادته الديمقراطية الحرة، بسبب التهديد المباشر من الإرهابيين ولأن تجربتنا الليبرالية بالأساس تجربة ناشئة.

 

ولهذا فلم يستطع الإعلام العراقي أن يشكل قوة ضغط، أو قوة تعريف لمواجهة الإرهابيين ولا ضير عندي أن اعتبر الإعلام العربي قد انتصر لأول مرة في العصر الحديث على الإعلام الأمريكي.

 

 

 

س : كيف..؟

 

 

 

ج : بإحصائية، أوعزت لمكتبي اعدادها تبين لي أن هنالك 700 ساعة بث تلفزيون يومياً، لإسناد منظمات الذبح، أو تقديم التبرير لها، أو ملاطفتها، بإيجاد تحوير لغوي ليصبح فيه الاعتداء على طلاب كلية الهندسة بقذيفة هاون هو هجوم، وهذه المفردة لمنح المهاجم حقاً لأنه يهاجم معسكراً آخر، وليس حرماً جامعياً، فيما المعسكر هو صف دراسي، لأبناء العراق الذين يشتركون في إعمار العراق في المستقبل لقطع دابر الكفاءات العراقية التي قد تساهم في إعمار البلاد، ومنهم المهندسون، وهم طلاب على مقاعد الدرس.

 

وتسمي الفضائيات العربية، ذبح صحفيين في

Link to comment
Share on other sites

Guest mustefser

الـعـراق الأمـريـكـي

 

لـ حـسـن الـعلـوي

 

كتابات - حـوار : عـمـار الـبـغـدادي

 

الـقـسـم السادس - الأخير

 

 

 

الليبـراليــة الطـــائـفـيـة

 

 

 

س : أنت تعرف أستاذ حسن أن لا مجال للمقاربة بين الليبـرالية والطائفية…إننا نشهد اليوم اقتراباً قد لا يكون بالضرورة منهجياً بين الليبـرالية والطائفية بصور ومظاهر مختلفة في المجتمع العراقي.. هل تشاركني توصيفاً كهذا؟

 

 

 

ج : الطائفية هي القانون الذي يحكم العراق والمنطقة منذ العهد العثماني، وهي التي جعلت من المحرم على العربي إذا كان شيعياً أن يكون وزيراً أو رئيسياً للوزراء أو سـفيراً بنسبة تزيد على الـ 5 بالمئة في الفترة ما بين عامي 1921 إلى 2003، وهنا أدعوك إلى مراجعة جداول كتابنا (الشيعة والدولة القومية).

 

لكن بعض العمل الطائفي كان في باطن الأرض، فخرج إلى ظهر الأرض مستفيداً من الجو الجديد الذي وفره العراق الأمريكي، فاعتقد بعض الناس أن الطائفية دخلت العراق مع دخول قوات الجنرال فرانكس. الطائفية في العراق أقدم نظام سياسي في المنطقة. وليس بإمكان الأميركان أن يغيروا من اتجاهاتها بسهولة.

 

والطائفية ليست خطراً بل الخطر في التمييز الطائفي، الذي يوزّع الامتيازات على فئة ويحرمها على الأخرى. والتمييز الطائفي، يرتبط دائماً بامتلاك قوة السلطة، ومن هنا فقد لا يجوز أن يسمى أبناء المذهب المحكوم من الشيعة بأنهم طائفيون. لكنهم في العراق الأمريكي وقد أتيحت للشيعة فُرص السيادة فقد يصلح أن يكون الشيعي طائفياً لأنه يمتلك السلطة وأدواتها وامتيازاتها. ولم يعد الشيعة مذهباً محكوماً في العراق الأمريكي. ولا أتمنى أن يصبح السنة هم أبناء المذهب المحكوم، بعد تلك المعاناة الطويلة للشيعة عندما كانوا محكومين حتى في كمية الدم النازل من عيون الثكالى!!.

 

 

 

س : إنني كإسلامي أشعر بخدش حين تتحدث عن الليبرالية في الإعلام بإعجاب واضح وانسجام؟

 

 

 

ج : الليبرالية ليست عقيدة أو أفكار، وإنما منهج يعترف بالآخر، فهي ليست كالماركسية ومشتقاتها بل حتى الماركسي يمكن أن يكون ليبرالياً، وكنت ترى أن الحزب الشيوعي العراقي وكثيراً من الأحزاب العربية ذات منهج ليبرالي، وكان الإسلاميون في عصر النهضة، هم الذين وضعوا لنا أسس الليبرالية الحديثة، قبل ظهور الأحزاب الثورية، والأنظمة الشمولية، التي صادرت الآخرين.

 

كان الكواكبي ليبرالياً وجمال الدين الأفغاني زعيم الليبراليين، وكان محمد سعيد الحبوبي والشيخ النائيني وهم فقهاء كبار ليبراليين.

 

أما السيستاني فهو يختزن جميع هؤلاء الفقهاء، الذين تحدثوا عن الليبرالية، ولم يكونوا يمتلكون قدراً من السلطة والحكم، بينما السيستاني أثبت ليبرالية في الدعوة لمشاركة الجميع في الانتخابات، وفي صياغة الدستور، وفي إدارة الدولة.

 

 

 

س : يتحدث مشاهدو الفضائيات ذات الطابع الإسلامي الشيعي أنها أقرب إلى الحسينيات منها إلى المؤسسات الإعلامية والثقافية؟

 

 

 

ج : كانت الحسينية مدرستنا الأولى. تعرفنا من خلالها على تاريخ مدرسة أهل البيت، وزودتنا بحس نقدي يتعامل مع التاريخ بمنهج غير مقدس، وقد أصدم القارئ إذا أشرت إلى أن بعض كتابات في مثالب حدثت في التاريخ الإسلامي وانتبه إليها كتاب علمانيون في السنوات الأخيرة لم تكن تساوي أكثر من أسبوع من الأمسيات نقضيها في الحسينية للاستماع إلى قارئ مطلع على التاريخ.

 

إن الشيخ الوائلي هو ابن الحسينية وابن المنبر فأية فضائية يمكن لها أن تنجب وائلياً آخر؟ وتذكّر كاظم نوح ومسلم الحلي وحميد المهاجر وهادي العلوي نفسه خرج من الحسينية، وأنا من هذه المدرسة.

 

إن الحسينية أدت دوراً في تشكيل وعينا الأول وصورة وجدان نقي خالص يترسم نقاء الدم في بطاح كربلاء.

 

 

 

البغدادي : إنني يا أبا أكثم لم أكن سوى ناقل وجهة نظر لي تحفظات عليها لكنها وجهة نظر كثيرين من الإسلاميين على أداء تلك الفضائيات.

 

 

 

العلوي : قل إنها تشبه أي شيء، لكنها لن تشبه الحسينية. لأن الحسينية والمشرفين عليها كانوا يتحركون بالدور المخصص لهذا المكان، وهم يحاسبون على ما أنجزوه أو ما لم ينجزوه داخل هذه المساحة وإمكاناتها وتجهيزاتها يوم لم يكن هنالك مايكرفون. إن الفضائية شيء آخر، وعليها أن تلتحق أو تؤدي دورها التكنولوجي على الأقل. الحسينية تقاس بمعيار الحسينية والفضائية تقاس بمعيار فضائي.

 

 

 

الفـــردي والدكتــــاتـور

 

 

 

س : كيف ترى الفرق الجوهري بين الفردي والدكتاتور ؟

 

 

 

ج : إن الديكتاتور العربي، هو وطني وبطل قومي عند فريق، وهو عميل عند فريق آخر، سواء كان صدام حسين أم غيره.

 

أعتقد أن هذا الالتباس يعكس مسالك الديكتاتور الذي قد لا يكون عميلاً لكنه ليس وطنياً وهذه مفارقة.

 

إن الزعيم الوطني يعمل لحساب وطنه وشعبه ناذراً حياته وجهده لهذا الهدف كما هو معروف، وأن العميل يشقى لحساب غيره دولة ثانية أو جهة.

 

أما الديكتاتور، فإنه يعمل لحسابه الشخصي، ولتكريس سلطته وسطوته، وقد يحتاج في مرحلة من مراحله إلى إصدار قرارات وإجراءات، وربما الدخول في مواجهات مع الدول العظمى، وتحالفات مع القوى الشعبية والاشتراكية، لكسب مشاعر الناس ونيل ثقتهم.

 

إنه يفعل كل ما يفعله البطل الوطني والقومي، لكنه فعل مرضي، فقد يرى الديكتاتور إن حماية سلطته واستمرار حكمه يرتبط برضا قوة خارجية، حتى ولو كانت استعمارية، فيسعى لخطب ودها ونيل ثقتها.

 

الحق أنه عندما يتحالف مع القوى الوطنية، فقد لا يكون مقتنعاً بمشروعها، وإلا لسار معها إلى النهاية. وأنه وبالقدر ذاته فقد لا يكون عميلاً خالصاً، ويتحالف مع القوى الأجنبية. ما دام مؤمناً أن التحالف مع هذا المعسكر أو ذاك، سيعود بالفائدة عليه وعلى سلطته.

 

 

 

البغدادي : أطمح بمواصلة هذا التوصيف للديكتاتور قبل أن أعرض سؤالاً آخر عليك.

 

 

 

العلوي : بلغة تراثية أقول:

 

إن الديكتاتور لا يرضى بالقليل، إن سمعه ثقيل ولسانه طويل، مقتحم غير متردد ونسيجه محبوك غير قابل للاختراق، وهو دائماً ضحية قراره فهو إن قرر لا ينثني، وقراراته تتصاعد بوتائر عالية.

 

إنه لا يعود إلى نقاط البداية، والمرحلة التي يغادرها تصبح رخوة أمام المرحلة التي هو عليها. إنه لا يخدع نفسه، ولعله مثال للانسجام مع الذات المنفصلة عن المحيط حيث الاتصال هنا يُضعف فرديته ـ ومن هنا يصدر عن الديكتاتور قرار بغلق الأبواب.

 

 

 

س : هذه الصفات قد تكون أقرب لديكتاتورية صدام لكن صدام ليس وحده من تميز بهذه الخصائص. ألم يكن السعيد ديكتاتوراً يعمل بلا برلمان. ألم يكن ياسين الهاشمي كذلك.. ألا يدخل عبد السلام عارف بنفس هذا السياق..؟

 

 

 

ج : حتى الآن لا أعرف ماذا تريد.

 

 

 

س : ما أريده بالتحديد هو إحراجك أو إخراجك من التناقض. فأنت في هذا المقام دافعت عن قاسم مثلما جرى ذلك في محاضراتك وكتاب خاص عنه وكأنه لم يكن ديكتاتورياً أو كأنك تتستر على دكتاتوريته التي كنت تتحدث عنها عندما كنت حزبياً يوماً ما مثلما تتحدث عن ديكتاتورية صدام حسين.

 

 

 

ج : التناقض الذي تعتقد أنني وقعت فيه سبق لي أن فككته عن عبد الكريم قاسم، وأنت إسلامي لا تميل كثيراً إلى عبد الكريم قاسم، ولهذا لا أظن أنك قرأت كتابي عنه، ولو كنت قرأته لوجدت فيه مقارنة تسبق كلامي هذا في 22 عاماً عند أجريت مقارنة بين الديكتاتور والفردي، وهي مقارنة بين صدام وعبد الكريم قاسم.

 

والفردي قد لا يكون ديكتاتوراً، وإن كان لابد للديكتاتور أن يكون فردياً.

 

إن الفردي نرجسي بسيط يعتقد أن جميع الناس يحبونه، وهذا ما لا يعتقد به الديكتاتور الذي يشك في ولاء من هم حوله، ولهذا يفتك بالحاشية دائماً.

 

إن الفردي نسيج مهلهل قابل للاختراق من أي السواحل جئته، فيما الدكتاتور كما أسلفت نسيج واحد متماسك.

 

إن الفردي ربما يقدم وينثني ويقرر ويلغي القرار، وهو مطمئن النفس والبال إن ثناء الآخرين عليه يصدر من قلوبهم وإنه سيستميل قلوب خصومه بالعفو، فيما الديكتاتور يرى في العفو عن الخصوم فرصة لهم لترتيب أوضاعهم ومعاودة الكرّ عليه.

 

والديكتاتور رهين قصره إلاّ في سيناريوهات سينمائية معقدة ومفبركة، فيما يحاول الفردي أن يفهم الناس أنه جزء منهم يحبهم كما يحبونه.

 

قلت مرة عن صدام حسين أن الألف أغنية التي أعدت للثناء عليه لم تحرك نبضاً في قبله ولم يُخدع بها. فهو يعرف أنها لم تصدر عن قناعة، ولهذا ترى الديكتاتور دائماً يضرب صانع الأناشيد وصانع مجده وإن كان صادقاً.

 

إذا ما تذكرت مصطلح التخادم السياسي الذي استخدمته أول مرة في كتابي أسوار الطين، وهو جزء من نظرية العمل لنظام صدام حسين، فربما ستشكل انطباعاً أولياً أو ربما تتراءى لك ملامح لهذا المشروع. كنت في ذلك الكتاب أجيب على سؤال فيما إذا كان صدام حسين عميلاً للمخابرات الأمريكية وهي جملة قرأتها قبل أيام منقولة على لسان صهره المغدور حسين كامل يخاطب ابن عمه علي المجيد في آخر لحظات من حياته وهو يقول: لا ينبغي أن تدافعوا عن صدام حسين لأنه عميل أمريكي.

 

وإذا كان حسين كامل قد صرح بهذا الاتهام فمن المتوقع أن يكون كثيرون قد وصموا صدام حسين بالعميل الأمريكي.

 

قلت في أسوار الطين: إن بإمكان أتباع صدام حسين أن يشيروا إلى الكثير من مواصفاته كزعيم وطني مثلما يمكن لفريق آخر أن يصمه بغير ذلك. معنى هذا أن شخصية صدام حسين قابلة لأن تكون في هذا الموضع أو ذاك. وقد يكون فيه كل ما في الزعيم الوطني من سمات. وقد يكون فيه كل ما في العميل من تلك السمات.

 

 

 

صــدام حســـين العميــل والــوطـني

 

 

 

س : هل تعتقد أن صدام حسين له وجهان أو عملتان أو شخصيتان!.

 

 

 

ج : دعني اكمل استطرادي وإن وافقتك أن تقييم الشخصيات المهمة قابل للقراءة المتعددة. أما أنا شخصياً وعلى حدود معرفتي به التي تمتد إلى أربعين عاماً أكثر من نصفها قضيتها متابعاً لنشاطاته السياسية بعين المعارض، فأرى أن شخصية صدام حسين لا تصلح أن تطوع لشخصية العميل لكنها بالتأكيد ليست شخصية الزعيم الوطني. إنه أقرب إلى ياسين الهاشمي وليس لعبد الكريم قاسم الوطني القح ولا لنوري السعيد الذي مازلت أؤكد أنه لم يكن يعمل لا لصالح العراق ولا لصالح نفسه بقدر ما كان مخلصاً ومجاهداً في السياسة البريطانية ومازلت أعرض استعدادي لمناظرات علنية مع أي فريق سياسي وعلى أي مستوى. لتأكيد قناعتي هذه.

 

لم يكن ياسين الهاشمي يعمل لصالح بريطانيا لأن شخصيته لم تكن طيعة، وهو غير سهل التدجين وكان أقرب إلى الجانب الوطني لكنه ليس كشخصية جعفر أبو التمن الواحدة غير القابلة للتجزئة. فقد كشفت وثائق بريطانية عن أسرار لقاءات خاصة للهاشمي مع مسؤولي العراق البريطاني عرض فيها استعداده للسير في مشروعهم لكنه سرعان ما يعود إلى نفسه ونفسه تواقة لأن يكون بطلاً. وحتى يكون كذلك فالبطولة المرجوة لا تصنع مع المس بيل وبريس كوكس وولسن وإنما مع الناس.

 

وصدام حسين كذلك لكنه أكثر مهارة من ياسين الهاشمي في الحرص على أوراق اللعبة.

 

إنه يعمل بما أسميته بنظرية التخادم السياسي، وهو يعتقد أن بالإمكان تبادل الخدمات بما يشبه المقايضة بين طرفين سياسيين أو دولتين.

 

إنه مستعد. وقد فعل ذلك. أن يبدو رجل السوفيات في الشرق الأوسط، ويكون أول دولة عربية تعترف بألمانيا الشرقية ويقيم تحالفاً مع الحزب الشيوعي العراقي، ويعقد معاهدة خطيرة مع السوفيات. بعد أن يكون قد أعاد الشيوعيين المفصولين إلى وظائفهم، وإشراك الحزب الشيوعي لأول مرة في حكومة عراقية. وهو ما لم يتحقق لهم رسمياً حتى في سلطة عبد الكريم قاسم.

 

فهل كان صدام حسين كريماً إلى هذا الحد مع الشيوعيين والسوفيات، وهل هو من هؤلاء الذين يمكن أن يعطوا كل شيء لوجه الله دون مقابل؟

 

إن الناس ربما يعرفون هذا الوجه الذي أغرى الحزب الشيوعي، وأغرى السوفيات واليسار العربي لكني أشك وأشك أنهم لا يعرفون الجانب الآخر من الالتزامات السوفياتية تجاهه، كلجم أي معارضة له وتمكين حكمه والاعتراف بقيادة البعث للمجتمع والسلطة وتشكيل سور سوفياتي حول العالم لحماية سلطته. وهو ما التزم به الاتحاد السوفياتي حتى ساعة تفكيكه.

 

هذا هو التخادم السياسي.

 

بدأ مع السوفيات وكنت ألمسه فقرة فقرة أثناء وجودي في الحزب وكنت معجباً بهذا النمط وربما يعجب آخرين. لما فيه من ندية وبراعة وقدرة على تعريف العمل السياسي.

 

وبهذا الفهم كنت أراقب نمو العلاقات العراقية الأمريكية بعد خروجي إلى المنفى. وقد تيسّر لي الكثير مما يمكن أن أمنحه إلى نظرية التخادم السياسي.

 

كنت واحداً ممن يفضلهم صدام حسين في المحادثة الثنائية، مما لا يتاح لأعضاء في القيادتين القطرية والقومية حتى بدأ عدنان الحمداني عضو القيادة القطرية ـ

 

المقرب إلى صدام حسين يسألني بما يثير استغرابي.

 

وحيث كنا ـ صدام حسين وأنا والمصور محمد علي حسن ـ على الحدود العراقية ـ الإيرانية في الأسبوع الذي وصل فيه الإمام الخميني إلى طهران في رحلة أسطورية وقد نزل من الطائرة وكأنه يهبط من السماء. فأثار إعجاب صحفيي العالم وصانعي القرار وأثار حفيظة الشعراء حتى إني وجدت بعد دُخولي إلى السعودية لأول مرة في أعقاب غزو الكويت أربعة شعراء من الوهابيين المتعصبين ولكل واحد منهم قصيدة عصماء يصف الإمام الخميني بأنه إمامُه.

 

في تلك الرحلة سأل صدام حسين القائد العسكري للمنطقة عن أي مكان هش في هذه الحدود يمكن الدخول منه إلى إيران؟ فارتجفت ارنبتا أنفي ونزل الدم في أذني وأنا أردد مع نفسي:

 

لعله سيفعلها ويدخل في حرب ضد إيران؟ مما دفعني إلى التلميح لهذا التصور فسألته عن الثورة الإيرانية والموقف منها. كان جوابه ملتبساً غير واضح فسألته بسذاجة متناهية:

 

هل نحن جئنا هنا لكي يرى الآخرون هذه الشعبية التي تستقبل فيها؟

 

فامتعض صدام وقال:

 

لسنا في سباق مع الآخرين لعرض عضلاتنا، ولكل واحد منا شعبه وخصائصه لكنه لم يذكر الثورة الإيرانية بخير!..

 

أريد أن أقول إن الأمريكان لم يكلفوا صدام حسين بشن الحرب على إيران. لأن أمريكا في ذلك الوقت الذي يسأل فيه صدام عن منفذ لدخول قوات عراقية لإيران كانوا في زمن المراقبة والانتظار ولم يكونوا حتى إلى جانب حليفهم التاريخي بهلوي الضائع على ظهر سفينة ولا يدري أين يتجه لولا حمية الرئيس أنور السادات.

 

كان في ذهن صدام حسين والعراق مدجج بالسلاح السوفياتي والجيش الإيراني الإمبراطوري وقادته أما مهزومون، أو تحت أحذية الثوار، أن يقوم بضربة شبيهة بالضربة الإسرائيلية لمصر 1967 ولم يضع في حسابه على الإطلاق أكثر من أسبوع لانتهاء الحرب. والدليل أن صدام حسين بعد الأسبوع الأول للحرب أعلن في التلفزيون العراقي أن الحرب انتهت وعلى إيران قبول شروطنا. ثم يفرض شروطه ويصبح شاهنشاه العرب بعد زوال إمبراطورية أريامهر الإيراني. وقد يطلب آنذاك ثمن انتصاره ممن تتعارض مصالحهم الوطنية والأمنية مع الثورة الإيرانية. سواءً كانت الولايات المتحدة الأميركية أم دول عربية أو خليجية.

 

إن المدة ما بين تلك الرحلة على الحدود الإيرانية وشن الحرب استغرقت سنة وثلاثة أشهر، أعد نفسه فيها لإزاحة الرئيس أحمد حسن البكر والانفراد بزعامة الحزب والسلطة، ولابد أن أموراً حدثت وقد كشفت الثورة الإيرانية عن استراتيجيتها في المنطقة، وكان ذلك خطأ قاتلاً حيث أعلنت أنها ستسقط العروش وتحرر الخليج وتصدر ثورتها لإقامة دول إسلامية على غرارها. وقد حدث كل ذلك بعد تلك الرحلة التي أشرت إليها والتي أشهد أن صدام حسين اتخذ قراراً مع نفسه بشن الحرب على إيران بسنة وثلاثة أشهر. وأغلب الظن أن صدام حسين كان يريد أن يباغت العرب بالنصر السريع المؤكد، مما يعني أنه لم يكن قد تشاور معهم بقرار شن الحرب وهذه من مزايا المغامرين!!.

 

 

 

س : أعود إلى سؤالي الأول عن علاقة ذلك كله بمشروع العراق الأميركي؟

 

 

 

ج : إن الحرب العراقية ـ الإيرانية أوجدت ظروفاً لم تكن تدخل في التدرج التاريخي لتطور الأحداث والوقائع في حركة درامية ضخمة، وكان التقادم فيها يخلق علاقات جديدة وتحالفات غير متوقعة، ومن هنا دخلت الولايات المتحدة فبدأت ترسل ضباط السي. آي آيه للعراق لتقديم الخدمات الفنية والإيعاز لزعماء الخليج بتغطية النفقات المالية للحرب.

 

أتذكر أن أمير قطر السابق والد الأمير الحالي، قد سرني أن السفير الأميركي في الدوحة طلب الالتقاء به على وجه السرعة، وعرض عليه رسالة أميركية تطلب دعماً مالياً عاجلاً بكذا مليون خلال ثلاثة أيام لدعم صدام حسين بمواصلة الحرب. وقد استجبنا للطلب برضا وغير رضا.

 

وهنا يمكن أن تفتح أمامنا أبواب التخادم السياسي الذي لا بد أن يكون صدام حسين قد أخذ به مع الطرف الأميركي الذي يحتاج في هذه الحرب بديلاً للطرف السوفياتي الذي كان النظام العراقي في سباق مع سوريا واليسار العربي للانفراد بالخطوة الأولى معه. وكما تبادل العراق والاتحاد السوفيتي فقرات التخادم السياسي بأمانة ودقة وخلال عقد السبعينات وفي الثمانينات، بدأ عقد التخادم السياسي مع الولايات المتحدة الأميركية.

 

وإذا واصلنا السير في مدارج التخادم السياسي فسنكون وجهاً لوجه أمام حقائق ولا أقول أسرار ـ هذه المفردة التي أمقتها وأمقت من يستخدمها ـ عن بدايات نشوء العراق الأميركي.

 

إن الولايات المتحدة الأميركية تقدم الرغيف للعراقيين بمعونة سنوية من القمح المجاني، وتقدم المعلومات الاستخبارية للعراق في الحرب، وتضع القدرات المالية للنفط العربي تحت تصرف صدام بحيث كان العراقيون وما زالوا يتغنون بأيام الرفاه في الحرب العراقية ـ الإيرانية. حتى نسوا شهدائهم!! وكأن الولايات المتحدة الأميركية في هذا السياق ظهرت وكأنها هي التي تقدم خدماتها للعراق ولصدام حسين وليس العكس.

 

وهنا أسال كما سألت عن التخادم السياسي مع السوفيات. عن الالتزامات التي على العراق أن يؤديها مقابل هذه الخدمات الأميركية الكبرى والخطيرة والتي كان منها مثلاً توفير سياج إعلامي آمن لصدام حسين من أي انتقادات صحفية ليس في أميركا بل في الصحف الأوروبية الغربية أيضاً، وأن لا تقدم الولايات المتحدة أية تسهيلات لمعارضي النظام وأن تبرر ـ إن أمكن ـ بعض الموبقات الواضحة في السياسة العراقية، وقد فعل الأميركان ذلك في حملة الإبادة الحكومية ضد أكراد حلبجة. وسأدوّن شهادتي هنا لتأكيد التزام الجانب الأميركي والأوروبي بعقد التخادم السياسي حتى الشهور الأولى لتوقف الحرب العراقية ـ الإيرانية وإعدام الصحفي

 

الإيراني بازوفت وقد كنت أشارك الصحفية الباحثة الأوروبية البريطانية السيدة هيلغا كراهام في كتابة أبحاث عن الشأن العراقي، وكان حسين حامد قاسم يترجمه لي ولها عندما هزتنا حادثة إعدام بازوفت المحرر في نفس الجريدة، وبدأنا بحملة صحفية ضد صدام حسين تدخلت رئيسة وزراء بريطانيا آنذاك السيدة مارغريت تاتشر بطريق وأخرى، لإيقاف هذه الحملة من أجل المصالح البريطانية كما فهمت إذ لوحت بأهمية عدم إزعاج الرئيس العراقي. وكنت ساعتها أشارك في برنامج قدمه

 

ريتشارد كلاس (ريتشارد كلاس. صحفي أميركي معروف اختطف في مطار بيروت مع صديقه نجل وزير الدفاع اللبناني آنذاك السيد علي عسيران وأطلق سراحه فاكتسب شهرة عالية أهلته لتقديم برنامج في التلفزيون البريطاني) للتلفزيون البريطاني عن العراق، فأوقفت العمل في هذا البرنامج وقلت له، أننا لسنا أدوات تستخدم في المصالح البريطانية متى شئتم، واتصلت بمحاميي لإرسال إنذار إذا ما بث هذا اللقاء.

Link to comment
Share on other sites

Join the conversation

You can post now and register later. If you have an account, sign in now to post with your account.

Guest
Reply to this topic...

×   Pasted as rich text.   Paste as plain text instead

  Only 75 emoji are allowed.

×   Your link has been automatically embedded.   Display as a link instead

×   Your previous content has been restored.   Clear editor

×   You cannot paste images directly. Upload or insert images from URL.

Loading...
×
×
  • Create New...