Jump to content
Baghdadee بغدادي

هل كانت موقعة (بدر) إسلامية خالصة؟


Recommended Posts

هل كانت موقعة (بدر) إسلامية خالصة؟ (1/2)

GMT 14:00:00 2006 السبت 30 سبتمبر

غالب حسن الشابندر

 

 

 

--------------------------------------------------------------------------------

 

 

قراءة تفصيلية نقدية لوقعة (بدر) الكبرى

 

مقدمة توضحية

في هذا الفصل من حياة النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم نتحدث بالتفصيل عن معركة (بدر)، نتحدث عنها بلغة نقدية فاحصة، نفتش عما بين السطور، ونستقرئ ما نستطيع استقراءه من أخبار ورويات عن أخطر المفاصل في المعركة، سواء على صعيد الحوادث أو الشخصيات أو النتائج، مستندين على أهم مصادر السيرة والمغازي والتاريخ، من دون التسليم بما تتحفا به من معلومات ومعطيات دون نقدها هي أساسا، فإن نقد المصادر والرواة عمل مقدم على كل محاولة لاستكشاف التاريخ، حيث مرت عملية الكتابة التاريخية بمراحل معقدة ومفصلة، فقد تجاوزت الكتابة التاريخية مرحلة النقل الحرفي، وتخطت مرحلة الاعتماد على مصادر لأن أصحابها ثقاة أو معروفون بالعلم والتتبع، كما أن قراءة الخبر التاريخي هي الأخرى تجاوزت القراءة الحرفية، وتخطت الأخذ بالظاهر، ومن هنا يطالب كثير من العلماء بإعادة كتابة التاريخ، وإعادة كتابة التاريخ تعني قراءة التاريخ من جديد بالدرجة الأولى. إن السند والمتن وورود الخبر في مصادر معتبرة لم تعد هي آليات البحث التاريخي الوحيدة، بل هي أليات أخذت تتعرض للنقد والتشريح، خاصة بعد أن كشفت العلوم عن الفارق الكبير بين الرواية الشفاهية والرواية المكتوبة، وكشفت الدراسات الدقيقة عن أهمية العلاقة بين الرواة والانتساب العشائري، وبين الرواة والإنتماء المذهبي، و كشفت عن علاقات خفية بين كيفية صياغة الخبر وطبيعة عصره... لا أريد هنا أن أطيل في هذه النقطة، فلها وقتها المناسب بإذن الله تعالى، ولكن أردت أن أبين المنهج أو بعض معالم المنهج الذي سوف نتعامل به مع مادة معركة (بدر)، وكل أملي أن نشهد ثورة تا ريخية تعيد قراءة السيرة النبوية، وتهذبها مما علق بها من أكاذيب ومبالغات وتهويمات، فإن ذلك من أهم ما يجب ان يقوم به علماء الإسلام، للدفاع عن شرف رسول الله صلى الله عليه وآله، ولكي نقطع الطريق على هذه الجماعات الإرهابية التي راحت تغرف من كتب السير والمغازي بلا تحقيق وبلا تدبر، فسببوا لإسلامنا ونبينا ومجتمعنا وجعا مؤلما، أعترف أن هذا البحث سوف يثير الكثير من الاوجاع، وربما الاتهامات، فهو قد يصدم الكثير من الناس، لأنه قد يجرح بالكثير من المسلمات التي درج عليها المسلم، فيما يخص تاريخ بدر وغير بدر، وقد وفقني الله أن اقوم بجولة طويلة معقدة مع كل غزوات الرسول الكريم، فظهر لي أن أكثر اخبارها مبالغ فيه، وكثير منها مشكوك فيه، وهناك فهم مخطوء للكثير من مواقف النبي الكريم وعموم المسلمين في معاركهم مع الأخر، وسبق أن كتبت عن معرجة قريضة وقد استطعت أن ابين ما فيها من دس خطير، شوه سمعة الرسول الكريم، وكما تعرضت لبعض سراياه قبل بدر، ولاحظت كيف انها مجموعة أخبار لا تغني ولا تسمن لمن يريد أن يؤسس تاريخا مضبوطا، يتمتع بالقوة والحيوية. واليوم وبمناسبة شهر رمضان الكريم، أقدم لقراء إيلاف هذه الدراسة المتواضعة عن وقعة بدر، كل أملي أن نقرأها بهدوء وتأني، والله الموفق للحق.

 

تلخيص المعركة في فصولها الرئيسية

نعتمد في هذا التلخيص على المصدر الرئيسي ذلك هو (سيرة بن هشام)، مركزين على المافصل المهمة، وربما نطعَّم في الأثناء ما يرد بـ (مصادر) أخرى مع الإشارة إليها ضمنا، ونؤجل علمية نقد المسانيد والمضامين بعد أن نكمل عملية التلخيص هذه.

 

البداية

كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد سمع أن أبا سفيان بن حرب قد أقبل من الشام إلى مكة بقافلة تجارية عظيمة، وفيها أموال لقريش، يقودها ثلاثون رجلا من قريش أو أربعون، ويروي ابن ا سحق في ذلك قائلا (فحدثني محمد بن مسلم الزهري، وعاصم بن عمر بن قتادة، وعبد الله بن بن بكر، ويزيد بن رومان عن عروة بن الزبير وغيرهم من علمائنا عن ابن عباس، وكل قد حدثني بعض هذا الحديث، فأجتمع حديثهم فيما سقت من حديث بدر، قالوا: لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان مُقبِلا من الشام، ندب المسلمين إليهم وقال: هذه عِير قريش فيها أموالهم فأخرجوا إليها لعل الله يُنْفِلُكُموها...).

هذه هي البداية، قاقلة قرشية عائدة من الشام إلى مكة بقيادة أبي سفيان، فأثار الرسول أصحابه ليتصدوا لها عسى أن ينفلوها!

ويستمر بن اسحق ليقول ما معناه، أن بعض الصحابة خف فيما أخرون ثقلوا، وفيما كان الرسول يستثير أصحابه كان أبو سفيان (يتحسس الاخبار ويسال من لقي من الركبان تخوفاَ من أمر النا س) فعلم ان الرسول الكريم كان قد استنفر أصحابه لملاقاته. فما كان من أبي سفيان إلا ّ أن يخبر قريش بما كان الرسول يخطط له، فأرسل لهم (ضمضم بن بن عمرو الغفاري) ليخبر قريشا بذلك، وبالفعل وصل (ضمضم) إلى مكة مسرعا، وأشاع الخبر هناك بطريقة دراماتيكية مخيفة!

 

رؤيا عاتكة بنت عبد المطلب

وقبل أن يصل (ضمضم) إلى مكة المكرمة بـ (ثلاث أيام)ليخبر قريش بالخبر كانت (عاتكة بنت عبد المطلب) قد رأت رؤيا في منامها وهي كما تقصها لأخيها العباس بن عبد المطلب (رأيت راكبا أقبل على بعير له، حتى وقف بالأبطح ـ والابطح مكان فيه دقائق الحصى بين مكة ومنى ويضاف إلى مِنى لأنه اقرب إليها من مكة ــ ثم صرخ بأعلى صوته: ألا أنفروا يا لَغُدر ـ وهي كلمة شتم ــ لمصارِعكم في ثلاث، فأرى الناس اجتمعوا إليه، ثم دخل المسجد والناس يتبعونه، فينما هم حوله مَثُل به بعيره ــ أي قام به بعيره ـ على رأس أبي قبيس ــ جبل مشرف على مكة من شرقيها ــ فصرخ بمثلها، ثم أخذ صخرة فأ رسلها، فأ قبلت تهوي، حتى إذا كانت بأسفل الجبل ارفضَّت ـ أي تفتت ــ فما بقي بيت من بيوت مكة ولا دارّ إلاّ دخلتها منها فلقة، قال العباس: والله إن هذه لرؤيا، وأنت فاكتميها، ولا تذكريها لأحد...).

قبل أن يصل (ضمضام) لقريش في مكة كانت عاتكة بن عبد المطلب رأت هذه الرؤيا، وعاتكة هي عمة (رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)، وكانت الرؤية طبعا في مكة.

لم يكتم العباس خبر الرؤيا، بل قصًََّها لصديقه (الوليد بن عتبة بن ربيعة)، والاخير كان طريقا لأفشاء الرؤيا حتى وصل خبرها لـ (أبو جهل بن هشام)، فتألم أبو جهل، فلقيه عند البيت الحرام، فقال له (يا بني عبد المطلب، متى حدَثت فيكم هذه النبية؟ قال ـ العباس لابي جهل ـ وما ذاك؟ قال: تلك الرؤية ا لتي رأت عاتكة، قال ـ العباس لأبي جهل ـ فقلت وما رأت؟ قال: يا بني عبد المطلب، أما رضيتم أن يتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم، قد زعمت عاتكة في رؤياها أنه قال: أنفروا في ثلاث، فسنتربص بكم ثلاث، فإن يك حقا ما تقول فسيكون، وإن تمض الثلاث ولم يكن من ذلك شي، نكتب عليكم كتابا أنكم أكذب أهل بيت العرب...).

ومن كل هذا نفهم ما يلي:

1: إن المقصودين بالشتيمة (يالَغُدُر...) إنما هم بنو أمية، فالقائلة هي الهاشمية (عاتكة بنت عبد المطلب) عمة رسول الله.

2: وقد شخَّص أبو جهل ذلك ـ بطل الرؤيا ــ الذي كان يهتف بهؤلاء، والذي أرسل تلك الصخرة القاتلة، أنه (محمد بن عبد الله).

لم يصدق أبو جهل رؤيا عاتكة، أعتبرها نوعا من الدجل أو الكذب، ومن هنا تحدى العباس بن عبد المطلب، وكان تحديه للعباس هو تحدي عشائري، لم يكن تحديا للعباس بعينه، بل لبني هاشم.

نكتفي الأن بهاتين النقطتين.

 

(ضمضم) يصل قريش في مكة

بعد أن راجت وماجت رؤيا عاتكة الهاشمية بين القوم، وأخذ الناس يتحدثون بها، وصل رسول أبي سفيان إلى مكة، وهناك جلجل صوته ينذر من خطر محمد على قافلة قريش العائدة من الشام! فقد وقف هذا الرسول المُخبِر ليهتف (... يا معشر قريش: اللطيمة اللطيمة ـ أي الأبل التي تحمل البز والطيب ــ أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه، لا أرى أن تُدركوها، الغوث الغوث...).

وقد هرع الناس يتحالفون بينهم أن يمنعوا محمدا من أن يعبث في قافلتهم، وقد عبًَت قريش كل رجالها، ولم يتخلف من أشرافها أحد، إلاّ أن أبا لهب كان قد تخلف وأرسل من ينوب عنه.

إذن توفر لحد الآن عاملان رئيسيان على طريق التجهيز للمعركة.

الأول: هي مستحقات رؤيا عمة النبي الكريم عاتكة بنت عبد المطلب.

الثاني: علم قريش أن محمدا كان يدبر التعرض للقافلة.

 

(إبليس)... ذلك البطل الخفي

ولم يكن الطريق سهلا لقريش في مسيرها لمواجهة محمد بن عبد الله، فعلى طريقها إليه كان هناك (بنو بكر بن عبد مناة بن كنانة)، حيث بينهما خلاف على دم، فكيف يعالجون هذه الثغرة، ولكن كان (إبليس) حاضرا لحل هذه المشكلة العويصة، ففي ذلك يقول بن اسحق (وحدثني يزيد بن رومان،عن عروة بن الزبير، قال: لما أجمعت قريش المسير، ذكرت الذي كان بينها وبين بني بكر، فكان ذلك يثنيهم، فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جُعشم الدْلجي، وكان من أشراف بني كنانة، فقال لهم: أنا لكم جار من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشي تكرهونه، فخرجوا سراعا).

وهكذا نفهم أن كل شي يهي للمواجهة، الرؤيا والخبر الواصل وإبليس في مسعاه الخفي...

ثم ماذا؟

يواصل بن اسحق كلامه القصصي السردي الجميل، فلنواصل معه القصة.

 

يتبعhttp://www.elaph.com/ElaphWeb/ElaphWriter/2006/9/180407.htm

 

هل كانت موقعة (بدر) إسلامية خالصة؟ (2/2)

GMT 15:45:00 2006 الإثنين 2 أكتوبر

غالب حسن الشابندر

 

 

 

--------------------------------------------------------------------------------

 

 

قراءة تفصيلية نقدية لوقعة (بدر) الكبرى

 

خروج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

يقول بن اسحق (وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليال مضت من شهر رمضان في أصحابه ـ قال بن هشام ــ خرج يوم الإثنين لثمان ليال خلون من شهر رمضان... الحلقة الأولى

وكانت أبل رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ سبعين بعيرا... فسلك طريقه إلى مكة...) ويستعرض بن اسحق المواقع الجغرافية التي مر بها رسول الله بمنتهى الدقة. ويشير ابن اسحق ان رسول الله كان يريد بدرا وهو في طريقه إلى مكة، فما أن وصل قريبا من (الصفراء) ــ وهي قرية بين جبلين ــ فقام بعمل مهم، ذلك أنه صلى الله عليه وآله وسلم (بعث بَسبس بن ا لجُهني، حليف بني ساعدة، وعدّي بن أبي الرزعباء الجُهمي، حليف بني النجار، إلى بدر يتحسَّسان له الأخبار، عن أبي سفيان بن حرب وغيره.

 

خبر قريش يصل للرسول الكريم

ويستمر بن اسحق [ وأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عِيرهم، فاستشار الناس، و أخبرهم عن قريش، فقام أبو بكر الصديق، فقال وأحسن، ثم قام عمر بن الخطاب،فقال وأحسن، ثم قال المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله، أمض لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو أسرائيل لموسى (فأذهب أنت وربك فقاتلا إنا هنا قاعدون)، ولكن إذهب أنت وربك فقاتلا إنّا معكما مُقاتلون، فولذي بعث محمدا بالحق لو سرت بنا الى برك الغماد ــ موضع بنا حية اليمن ــ لجالدنا معك من دونه، حتى تبلغه، فقال له رسول الله خيرا ودعا له به ].

وقد سقت الإشارة إلى الشيخين الجليلين أبي بكر وعمر، لأن هناك رواية أخرى في صحيح مسلم تنبئ عن غير هذا، سوف نتعرض لها في التعليق على الخبر أساسا.

وكان النبي يتخوف من عدم مشاركة الأنصار، فحسب الذمام الذي كان بينهما يقف عند حد مهاجمة المدينة فقط، ولكن سعد بن عبادة غير المعادلة، فضمن له المشاركة.

هنا نسجل نقطة مهمة، وهي، أن الرسول حول مهمته من التعرض لقافلة أبي سفيان إلى مواجهة قريش كلها، بل قريش وأخرين!

هذه النقلة غيرت وجه التاريخ، وقد كانت نقلة في العزيمة وفي الهدف أذهلت بعض الصحابة، فمن له طاقة في مواجهة قريش؟وكان بعضهم يحرص على أن يقنع نفسه بأن المواجهة ستكون مع أبي سفيان ورهطه القلة، وذلك خوفا من وقع الخبر المغاير، الخبر الذي يقول أن قريش أقبلت لتؤدب محمدا وصحبه!!

 

أبو سفيان يهرب بالقافلة

يقول بن اسحق (وكان بسبس بن عمرو، وعدي بن أبي الزغباء قد مضيا حتى نزلا بدرا، فأناخا إلى تل قريب من الماء... فسمع عدي وبسبس جاريتين من جواري الحواضر ـ أي النازلون على الماء ـ وهما يتلازمان على الماء ــ التلازم يعني تعلق الغريم بغريمه ــ على الماء، والملزومة ـ أي المديونة ــ لصاحبتها: إنما تأتي العِير غدا أو بعد غدا، فأعمل لهم، ثم أقضيك الذي لك... وسمع ذلك عدي وبسبس، فجلسا على بعيرهما، ثم إنطلقا حتى أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه بما سمعا).

وتقول الراوية أن أبا سفيان ورد هذا الماء، أي ماء بدر، وقد عرف من تفتيت (علائف يثرب) بأن محمدا ربما يتعقبه، فأخذ ناحية الساحل، تاركا بدر، فنجا بالقافلة. وعلائف يثرب هي ما تركه هنا بعيرا بسبس وعدي، وتشير الروايات أن أبا سفيان أرسل بالخبر إلى قريش، ينبئها بأنه نجا والقافلة. وتشير رواية أخرى أن رسا لة أبي سفيان وصلت إلى قريش وقد نزلت (الجحفة).

 

رؤيا جديدة!

أقبلت قريش ونزلت في (الجحفة)، وهنا تتجدد قضية الرؤيا، ففي المصدر أن جهيم من الصلت بن مخزمة بن المطلب، بن عبد مناف قد رأي هو الأخر (رؤيا)، وكانت هي كما على لسانه (... إني رأيت فيما يرى النائم،وأني لبين النائم واليقظان، إذ نظرت إلى رجل قد أقبل على فرس حتى وقف، ومعه بعير له، ثم قال: قُتِل عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو الحكم بن هشام، وأمية بن خلف، وفلان وفلان، فعدَّد رجالا ممن قُتِل يوم بدر، من أشراف قريش، ثم رأيته ضرب في لَبَّة بعيره، ثم أرسله في العسكر، فما بقي خباء من أخبية ا لعسكر إلاّ أصابه نضح من دمه، قال: فبلغت أبا جهل، فقال: وهذا أيضا نبي أخر من بني المُطلب، سيعلم غدا من القاتل ومن المقتول). هذه الرؤيا جاءت بعد أن أحكمت قريش أمرها، وكان النبي الكريم هو الأخر أحكم أمره، فيما السابقة كانت قبل ذلك، تتطابق الرؤيتان بما يلي: ــ

1: كلاهما مطلبية المصدر.

2: كلاهما تتعرض لنذر سوف تصيب قريش وخاصة الملأ منها.

3: تتطابقان في أكثر العناصر كما هو واضح من أدنى نظر.

4: كلاهما تلقيا تكذيبا وردا من أبي لهب.

5: كلاهما تحذير ونذير.

 

أول الإنكسار

كان أبو جهل قد أرسل إلى قريش يقول لهم (إنكم إذا خرجتم لتمنعوا عِِيركم ورجالكم وأموالكم، فقد نجاها الله، فارجعوا، فقال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نرد بدرا ــ وكان بدر موسما من مواسم العرب، يجتمع لهم سوق كل عام ـ فنقيم عليه ثلاثا، فننحر الجُزر، ونطعم العطام، ونسقي الخمر،وتعزف القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا و جمعنا، فلا يزالون يهابونا أبدا بعدها، فامضوا...). ولكن كان هناك من يفكر بطريقة أخرى، أنهم بنو زهرة، فهؤلاء كانوا يرون أن لا داعي للمواجهة بعد، فقد نجت الأموال والرجال، فعلا م هذا القتال، وكان معها بنو عدي بن كعب (فلم يشهد من هاتين القبليتين بدرا أحد)، وكان هذا بداية الإنكسار في تجمع قريش كما يرى بعض الباحثين، ولكن السؤال المهم هنا، ترى ما هي الدوافع الحقيقة وراء تخلف بني زهرة، كذلك بني عدي؟ هل حقا هو نجاة القافلة أم هناك سبب أعمق؟

 

الجَمعانِ على مقربة من بعضهما

كان كل من الجمعين يتجه صوب بدر، حتى تقاربا، ولكن من دون أن يعلم أحدهما بموقع الأخر، فيما كانت قريش تنزل بـ (العُدْوة القصوى) من الوادي، كان المسلمون ينزلون في (العدوة الدنيا) من بطن الوادي، وفي ذلك نزل وحي كريم (إذ أنتم بالعُدْوة الدنيا وهم بالعُدْوة القصوى والركب أسفل منكم ولو تواعدتم ثم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا وليهلك من هلك عن بينة ويحي من يحي عن بينة وإن الله لسميع عليم).

والعدوة هي شفير أو حافة الوادي، فكانما بينهما واد، وقريش كانت على حافة الوادي البعيد من المدينية، فيما كان المؤمنون ينزلون حافة الوادي القريب من المدينة، ولكن يستفيد بعضهم ان المؤمنين كانوا على قمة التل، فيما كان القريشيون في الوادي، حيث يقول ابن اسحق (وبعث الله السماء، وكان الوادي دهسا ــ أي لينا سهلا ليس برمل ولا تراب ــ فأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واصحابه منها ما لبَّد الأرض ـ أي جمع بين ذرات تراب الأرض فتتماسك، مما يشير إلى أنهم كانوا على قمة التل فإن أرض الوادي لا تُلبدها المياه بل تجعلها رخوة خطرة، لا يمكن التثبت عليها ــ ولم يمنعهم عن السير وأصحاب قريش منها ما لم يقدروا على أن يرتحلوا معه، فخرج رسول الله يبادرهم إلى الماء،حتى جاء أدنى ماء من بدر نزل به)، فهذا النص يفيد أن المطر لبّد الأرض للمسلمين، وبالتالي، هم على قمة الجبل، لأن الماء لا يلبّد تراب الوادي،، فلم يسبب لهم المطر مشاكل، بل قدم لهم عونا، حيث يساعدهم على ثبات الخطو، فيما كانت قريش في الوادي فسبب لها مشاكل السير والانتقال. (وأما قوله تعالى (والركب أسفل منكم) فالاشارة إما إلى قريش وهي في الوادي، أو إلى قافلة أبي سفيان التي نجت، حيث كانت في مكان أسفل من مكان المؤمنين، أي على سا حل البحر.وقد أشار الوحي إلى قصة المطر هذه بقوله تعالى (إذ يغشيكم النّعاس أمنةَ منه، وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به، ويًذهب عنكم رجز الشيطان، وليربط على قلوبكم، ويثبت به الأقدام).

فهذا المطر لبّد لهم الأرض، وبعث في نفوسهم نشوة، فيما لين للقريش الأرض وجعلها زلقة، وربما أربك حالتهم النفسية بسبب تجمع المطر في الوادي.

 

بناء عريش رسول الله

قال بن اسحق (فحدثني عبد الله بن أبي بكر أنه حُدِّث: أن سعد بن معاذ قال: يا نبي الله، ألا نبني لك عريشا تكون فيه، ونُعد عندك ركائبك، ثم نلقى عدوّنا، فإن أعزَّنا الله وأظرهنا على عدوِّنا، كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى، جلست على ركائبك، فلحقت بمن وراءنا، فقد تخلف عنك أقوام يا نبي الله، ما نحن بأشد لك حبا منهم، ولو ظنوا أنك تلقى حربا ما تخلفوا عنك، يمنعك الله بهم، يناصحونك ويجاهدون مع، فأثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا، ودعا له بالخير، ثم بُني لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريش، فكان فيه).

 

أول القتلى

تقارب الجمعان، وقد أقبل بعض رجال قريش يشربون من حوض رسول الله، أي من الحوض الذي حفره المسلمون وجمعوا فيه الماء، لأن المسلمين كانوا قد ردموا كل الآبار التي تلي حوضهم باتجاه مسير قريش، فاشتد العطش ببعضهم، فجازف وأقبل على الماء، فقُتِل، ولم يسلم إلا واحد. وكان هؤلاء هم أول القتلى.

 

رؤيا ثالثة ولكن من نوع جديد

في هذه الأثناء وفي سجال الحرب التجسسية أرسل قريش عينا ممترسة لرصد المسلمين، بغية معرفة قوتهم وعددهم وعدتهم، وكان ذلك هو (عُمير بن وهب الجمحي)... فاستجال بفرسه حول العسكر ثم رجع إليهم، فقال: ثلاثة مائة رجل يزيدون قليلا أو ينقصون، ولكن طلب منهم أن يجول مرة أخرى ليكشف إن كان لهم كمين أو مدد فلم ير شيئا، فعاد لهم بالتقرير التالي (... قد رأيت يا معشر قريش ا لبلايا ــ البلايا هي النوق أو الجمال التي تربط على قبر الأموات، لا تعلف ولا تسقى حتى تموت، كان يفعل ذلك بعض العرب الذين يؤمنون بالبعث والنشور ــ تحمل المنايا، نواضح يثرب ــ النواضح هي الأبل التي يُستقى عليها الماء ــ تحمل الموت النا قع، قوم ليس معهم مَنعة ولا ملجأ إلا سيوفهم، والله ما أرى أن يُقتَل رجل منهم، حتى يقتل رجلا منكم، فإذا أصابوا منكم أ عدادهم فما خير العيش بعد ذلك، فاروا رأيكم)، وهي نبؤة تفيد أن عدد القتلى من قريش سيكون بعدد ما تقتل قريش من المسلمين!!

 

محاولة لمعالجة الأمر بالعقل

وقد كان لهذا التقرير وقعه على بعض رجالات قريش، فقد سمع حكيم بن حزام هذا التقرير فأتى (عُتبة بن ربيعة) فقال له (يا أبا الوليد: إنك كبير قريش وسيدها، والمُطاع فيها، هل لك أن لا تزال تُذكر فيها بخير إلى آخر الدهر؟ قال: وما ذلك يا حكيم؟ قال: تُرجِع بالنِّأس، وتحمل أمر حليفك عمرو بن ا لحضرمي ــ وهو الذي قُتِل في أحد السرايا، قتله بعض الصحابة ولم يؤمروا بذلك فقرعهم القران بشدة وكان حليف عُتبة المذكور وقد كانت قريش تتحجج به لحرب محمد علية السلام والصلاة ــ قال: فعلت، أنت عليَّ بذلك، إنما هو حليفي، فعليّ عقْله ــ أي ديته ــ وما أُصيِب من ماله، فإت ابن الحنظلية ــ أي أم أبي جهل ــ... قال حكيم: فانطلقت حتى جئت أبا جهل... فقلت له: يا أبا الحكم إن عتبه أرسلني إليك بكذا وكذا...) ولكن أبا جهل استطار عقله، واسشاط غضبا، رفض المحاولة، متهما (عُتبة) بالجبن، مشيرا أن (عتبة)إنما يريد أن نرجع وأن لا نشتبك مع محمد لان أبنه أسلم! وقد استفز بذلك (عُتبة)، الأمر الذي أضطره لدفع تهمة الجبن عنه، فدعا للمبارزة وقتل.

 

الالتحام الدامي

بدأت المواجهة فردية ثم تحولت إلى جماعية، وقتل من قريش جمع من أبرز رجالاتها، من أخطرهم أبو جهل، وكان عدد الذين استشهدوا في بدر من المسلمين أربعة عشر رجلا، وعدد الذين كان نصيبهم القتل من القريشيين وأحلافهم سبعون قتيلا، مضافا لسبعين أسير.

هذه هي قصة معركة بدر، أختصرتها من سيرة بن اسحق، مطعما أياها ببعض الشواهد من مصادر أخرى، ولكن هل نستسلم لكل ما جاء فيها؟

هناك أكثر من سؤال وسؤال، وهناك أكثر من مفارقة ومفارقة، وهناك أكثر من إثارة وإثارة، منها ما يتعلق بمصادر الرواية، ومنها ما يتعلق بدوافع القتال، ومنها ما يتعلق بسلوك الفريقين، ومنها ما يتعلق بموقف المصادر الأخرى، ومنها ما يتعلق بهوية المعركة... وأمور أخرى.

 

نستمر في حلقات مقبلة إن شاء الله تعالى.

Ketab_ 1@hotmail.com

 

 

http://www.elaph.com/ElaphWeb/ElaphWriter/2006/10/180927.htm

Link to comment
Share on other sites

معركة بدر... نقد المصدر الأول

GMT 18:45:00 2006 الأربعاء 4 أكتوبر

غالب حسن الشابندر

 

 

 

--------------------------------------------------------------------------------

 

 

تمهيد

 

المصدر الرئيسي لأخبار (معركة بدر) يكاد ينحصر في سيرة ابن إسحق (ت 151)، ومنها أخذ الطبري (ت 310) / التاريخ ج 3 ص 31 حتى ص 84 / ولكن الطبري أورد أخباراً أخرى ذات أهمية، سوف نتعرض لها في الحلقات المقبلة إن شاء الله، كذلك أخذ منها ابن الأثير (550 ـــ 630 ) بلا ذكر للمصدر، وقد بدأ حديثه عن المعركة بقوله (وكان سببها قتل عمرو بن الحضرمي وإقبال أبي سفيان بن حرب في عِير قريش...)، كذلك الحافظ الذهبي (ت 748) مشيرا إلى ذلك صرا حة بقوله (من السيرة لأبن أسحق، رواية البكائي) / المغازي ص 50 / وقبله أبن القيم الجوزية ( 597) في كتابه الشهير (المنتظم) ملحقا به كتابه الفقهي المستند على السيرة والموسوم بأسم (زاد المعاد)، وهكذا مع أكثر وأهم المصادر التي كتبت ودونت سيرة النبي الكريم، فإنها أخذت جل ما دونته من سيرة أبن اسحق، تا رة مع الإشارة وأخرى بلا إشارة، وهذا ما رصده مستشرق بارع هو البريطاني (مونتكمري ) فسجله صراحة وبكل شجاعة. وكل ما أزيد علىسيرة أبن اسحق لم يدخل في صميم المعركة، أي ليس من الأمور المهمة التي تسترعي الإنتباه، فضلا عما يعتري هذه الزيادات من قصور سندي في كثير من الأحيان، اللهم إلاّ النزر اليسير، فلم تكن هي زيادات ذات فائدة قصوى تلك هي التي جاء بها الواقدي (ت 207) للهجرة، رغم فائدة بعض الخطب التي أوردها الرجل على لسان بعض القرشيين، وهم يحثون الناس على التصدي لمحمد بن عبد الله بعد أن وصلهم خبر نيته التصدي للقافلة القرشية بواسطة عين أبي سفيان (ضمضم). وللعلم يبدأ الواقدي عمله في المعركة بصيغة (قالوا) ثم يسرد الواقعة، وهي تتطابق مع سيرة إبن اسحق بشكل حرفي إلى حد بعيد، الأمر الذي دفع بعضهم لإتهام الواقدي بأنه ينقل من ابن اسحق، وهو لم يذكر المصدر إما كرها بصاحبه،أو لأن أهل المدينة لم يوثِّقوا إبن إسحق، ولكن هذا لا يعني ان الواقدي عالة بالكامل على إبن اسحق، فذلك ظلم كبير، يجب أن يربأ عنه الباحث الموضوعي، فأقل ما يمكن أن يُقال عن مغازي الواقدي تلك الدقة في التصنيف والتبويب والترتيب.

المعركة مفصلة في كتاب (طبقات بن سعد) الجزء الثاني من طبعة صادر في بيروت، وابن سعد ( ت 230) ينقل تفصيلا عن استاذه الواقدي حتى أن أبن النديم قال مرة في كتاب الفهرست وهو يترجم له (أبو عبد الله بن محمد بن سعد، من أصحاب الواقدي، روى عنه وألف كتبه من تصنيفات الواقدي) / المصدر ص 111 تحقيق رضا طبع طهران \، على أن من الواجب أن نذكر أن لابن سعد طريقين أخريين في روايته السيرة النبوية أهمهما بعد الواقدي هو (رويم بن يزيد المقريء)، نذكر ذلك للتوضيح، لعلي يوما أقوم بعملية نقد مفصل لهذه الأصول، ومن الواقدي أخذ كثيرا المؤرخ البلاذري المتوفي سنة (279)، في كتابه المشهور (أنساب الأشراف) حيث خصص قطعة مهمة من كتابه لهذه المهمة، ولكنها لا تزيد على سيرة إبن اسحق كثيرا.

في كتاب تاريخ الإسلام قسم الغزوات للذهبي (ت 748) نصادف قطعة من مغازي (موسى بن عقبة بن أبي عياش أبو محمد الأسدي) المتولد تقريبا سنة (55) والمتوفي سنة (141)، والرجل من تلاميذ الزهري عاش في المدينة، هذه القطعة تتعلق بـ (غزوة بدر)، ولكن لم نجد ما يختلف فيه موسى بن عقبة عن سيرة ابن اسحق بشي يذكر.

نخلص من كل هذا أن ما يسمى بـ (غزوة) بدر إنما مصدرها الرئيس هو سيرة إبن اسحق بشكل جوهري ورئيسي، ولذا فيما أراد الدارس أن يحلل هذه (الغزوة / وأنا أسميها معركة لان النبي لم يغزو) عليه أن يرجع بشكل مركزي إلى هذه السيرة بالذات.

لا ينفي ذلك أن هناك محاولات سابقة على ابن اسحق، فقد كان ابن عباس يحدث بالسيرة كما يقولون، وكان البراء بن عازب كما يُنقل يهتم بتدوين المغازي، وكان عروة بن الزبير المتوفي سنة ( 92 أو93) يكتب المغازي وقد صدر كتابه ( مغازي رسول الله) محققا في سنة 1981، وهكذا غيره،ولكن باتفاق الاراء إنها دون سيرة أبن اسحق، سواء على مستوى السعة أو الأداء أو اللغة. كما أن بعضها ضاع، والأخر مختلط بغيره.

 

سيرة إبن اسحق

هي السيرة العمدة بلا شك، تتالف إذا صح التعبير من ثلاثة أقسام، المبتدأ، والمبعث، والمغازي، ويقال أنه وضعها بطلب من الخليفة المنصور، ولكن رغم كل ما يمكن أن يدور حول الكاتب من تساؤلات وتهويمات فإن جهده هذا يعتبر هو المعين الأول لكل ما كُتِب ودون عن سيرة النبي العزيز، خاصة ويعتبر بحق موسوعة أسماء وحوادث وأيام ووقائع وتواريخ وشواهد قرآنية وحديثية وأنساب وأحساب تفوق المتصور، ولكن هذه السيرة لم تصلنا بنفسها بل وصلت لنا عن طريق إبن هشام (ت 213 أو 218)، فقد وصلت إلينا على يديه، بعد أن أحدث عليها بعض التغييرات من حذف واضافة وتقديم وتأخير وشرح وبيان واختصار كما يشير هو إلى ذلك صراحة، وفي ذلك نقاش طويل بين مؤرخي السيرة وكتابها نقدا أو مدحا، وفي تصوري أن الرجل كان يريد أن يؤسس لزمن إسلامي جديد، يختلف فيه عن ابن إسحق، وليس هنا محل تفصيل ذلك، ولكن يجب أن نعلم أن إبن هشام هذا إنما كان بينه وبين إبن اسحق واسطة، ذلك هو زياد البكائي (ت 183) وهو أحد تلاميذ ابن اسحق، كان قد صحبه بسفراته بعد أن ابتاع بيته وكل ما يملك من أجل أن يدون السيرة، وقد أملى عليه إبن اسحق السيرة مرتين / سير أعلام الذهبي 9 ص 5 /، ويقال أن زياد نفسه هو الآخر لم يحافظ على نص إبن اسحق صاحب السيرة الأولى !!

هذه التنقلات ليست بالأمر السهل، خاصة إذا علمنا أن هناك من يشكك بعدالة هذا التسلسل الثلاثي، أي إبن إسحق ثم تلميذه زياد البكائي ثم الناقل الأخير إبن هشام، أي يشكك بعدالة كل من هؤلاء الرواة. فقد صدرت طعون معتبرة في ابن اسحق وفي البكائي وابن هشام، وإذا عالج بعضهم هذه الطعون من أن روايتهم في السيرة مقبولة ولكنها ليست مقبولة في الأحكام والشرائع، فإن بعض الطعون جاءت على نحو مطلق ــ على أن هناك من دافع عنهم بقوة وصلابة حتى من قبل المحسوبين على علم الحديث ــ

إن كل هذه الاعتبارات تجعلنا أو تعطي لنا الحق في نقد هذا الأصل، بل إن النقد وارد حتى إذا صدرت توثيقات في كل من ابن اسحق وتلميذه وتلميذ تلميذه، فليس كل ثقة يسلم من الإشتباه والخطأ والنسيان وتأثير العاطفة، فنحن بشر، ثم هناك أكثر من ملاحظة عامة على مصادر السيرة النبوية الأولى، وبالأخص في موضوع المغازي، يمكننا أن نجملها في النقاط التالية: ــ

 

الأولى: إن هذه المصادر دوِّنت في القرن الثاني والثالث للهجرة، مما قد يدفع بهؤلاء إلى مراعاة سليقة ورغبات واتجاهات الخلافة الحاكمة أنذاك، وقد أثيرت الكثير من التساؤلات حول ما يُنسب من فضائل وأدوار بطولية للعباس بن عبد المطلب في هذه المصادر، إذ قد تكون بتأثير وتوجيه مباشر أو غير مباشر من خلفاء بني العباس،وخاصة وهناك أخبار تقول إن ا بن اسحق كتب السيرة بطلب من الخليفة العباسي المنصور المعروف بجبروته وحبه لعشيرته وأهل بيته.

 

الثانية: أنها اعتمدت أولا وأخرا الرواية الشفهية، أي لم تعتمد على نص مدون مسبق، وهذه مشكلة كبيرة، حيث تضيع كل إحالة يمكن العودة إليها من أجل الضبط والتوكيد والمراجعة، والذاكرة لا تسعف نفسها دائما على طبق الأصل، بل هناك دراسات تقول باستحالة بقاء الصورة الأولى للحدث أو الحديث في خزين الذاكرة، بحيث تتم عملية إسترجاعه كما هو في هويته الأولى.

 

الثالثة: إن هؤلاء يحاولون أن يؤسسوا زمناً إسلامياَ، ومن الطبيعي أن يتأثروا في هذه الغاية، أي أن الغاية لها أثر في مضمون العمل، لأنهم مسلمون، وكانوا يريدون الحفاظ على سيرة الرسول خاصة (غزواته)، وبالتالي قد يطغي الحرص العزيز على الهدف فيؤثر سلبيا على التدقيق الحصيف بالاخبار والشواهد والمعلومات.

 

الرابعة: الأختلاف الكبير في الروايات، فهذه مشكلة هي الاخرى تضاف إلى السابقات، وهي ليست بدعا في مجال تدوين المأثور عن النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، لانها تلاحق ما نُقل ودوَِن عنه في خصوص الاحكام والمواقف الشخصية، ولكنها مشكلة كبيرة على كل حال، تحتاج إلى جهد مضني من أجل تنقيتها، ومن ثم إتخاذ الموقف الأرجح تجاهها.

 

الخامسة: الانحياز المذهبي أو العشيري أو الأسري، فهؤلاء المدونون ليسوا ملائكة، هم من وسط ثقافي وبيئي وقومي ومذهبي معين، وبالتالي، ليس من السهولة أن يتحرروا من كل هذه الترسبات وهم يدونون السيرة بشكل عام وا لمغازي بشكل خاص، وذلك لأن في المغازي بطولات ومواقف تاريخية تكشف عن معدن الصحابي، ومدى إيمانه بنبوة الرسول، وقناعته بالرسالة، وكم هو مستعد للتضحية، ويواجه الناقد الكثير من المفارقات في هذه النقطة بالذات، وكاتب هذه السطور شخصيا واجه أكثر من صيغة عن موقف كل من الشيخين الجليلين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما لما استشار النبي الكريم صحابته في التصدي لقريش بعد أن نجت قافلتها فيما هي صممت مواجهة محمد في (بدر)، وكل صيغة تباين الأخرى تماما، وكل صيغة لها مدونها ومروجها.

 

السادسة: قد لا يوجد شك بعدالة المدونين الأوائل، ولكن هل يبرر هذا الأخذ بعدالة مصادرهم من الرواة ؟ فربما ثقة يأخذ عن كذاب أو مدلس أو غير ضابط، ومن هنا، لا يمكن الإعتماد على ما يرويه الثقة من دون فحص سنده ورجاله ومعتمديه في الرواية.

 

هذه بعض المشكلات التي تواجه العمل في السيرة النبوية وعلى وجه الخصوص في موضوع (المغازي)، وبذلك لا يحق الاعتراض على نقد المصادر الأولى لهذه السيرة، بل ذلك من صميم العمل الجاد الذي يريد للحقيقة أن تنتصر وتسود، وبناء على كل ذلك سوف نواصل كلامنا عن معركة بدر كما وردت في نص ابن اسحق على لسان ابن هشام بلغة نقدية مفصلة.

 

يتبع

Ketab_1@hotmail.com

 

Link to comment
Share on other sites

معركة بدر.... ولكن ماذا عن إبن اسحق نفسه؟

GMT 16:45:00 2006 الإثنين 9 أكتوبر

غالب حسن الشابندر

 

 

 

--------------------------------------------------------------------------------

 

 

توضيح: قبل أن الج في صميم الموضوع أحب أن أنبه أن هذه الموضوعات لم تكتب بحس طائفي، بل وربما ولا بحس ديني، رغم أنها تهدف بالاساس تنزيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من افتراءات اساءت لحبيب المسلمين وكل إنسان منصف شريف، وأقول لمن لا يعرف هذا الكاتب، أنه كتب الكثير عن التراث الشيعي نا قدا بقسوة وعنف، وقد تسبب له ذلك بمشاكل وآلام، خاصة من حملة لواء الإسلام السياسي الذي يعتبره الكاتب من أخطر ما يهدد الإسلام اليوم، سواء كان هذا الإسلام السياسي سنيا أو شيعيا. والخطة التي أسيرعليها هي تجلية كل أخبار معركة بدر إن شاء الله تعالى، وهدفنا تصحيح السيرة، وتنقيتها من الخر افات وا لأساطير، وفي النهاية سوف اعرض لمعركة بدر في التراث الشيعي ناقدا كما هي عادتي، وليس لإنتمائي لاهل البيت ما يمنعني من ذلك، بل هو ما يدفعني لذلك، أضع هذا التوضيح وارجو أن يمنحني القاري صبره كي نمشي بالبحث خطوة خطوة، والله الموفق للصواب (المخلص غالب حسن الشابندر)

 

تعريف إولي

 

ولكن ألا يستحق صاحب السيرة الأولى قراءة دقيقة متفحصة ناقدة؟ حقا هو ذاك، لأنه المؤسس، أو هو أهم وأخطر الؤسسين، لقد نقل الشفاهية إلى الكتابية، وتلك نقلة كبيرة، وهو باتفاق الناقدين وأصحاب العدل والتجريح أول من دوَّن السيرة المباركة بهذه السعة المدهشة، ثم لا ننسى أن ما كتب قبل إبن أسحق تعرض للضياع، وإذا وجد منه شي، فلا يغني كثيرا، بما في ذلك مغازي موسى بن عقبة.

هو (محمد بن إسحاق بن يسار بن خيار، وقيل: إبن كوثان... وقيل أبو عبد الله القرشي المُطلبي مولاهم المدني صاحب السيرة، وكان جده يسار من سبي عين التمر، في دولة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان مولى قيس بن مخرمة بن المُطلب بن عبد مناف رضي الله عنه ) / أعلام الذهبي 7 ص 33 / وينقل لنا البغدادي (وهو أول سبي دخل المدينة من بغداد) / تاريخ بغداد 1 / 216 فهو إذن (أحد المدنيين المعتَقين) / تاريخ القرآن نولدكة 2 / 351 /

لقد ترجم له كثيرون ومن أوسع التراجم كما في حدود إطلاعي هي ترجمة الذهبي في كتابه (سير أعلام النبلاء) ، وترجمة الخطيب البغدادي في كتابه (تاريخ بغداد)، والأولى تنطوي على بعض الإنحياز، فيما الثانية كانت أكثر حيادية، مع العلم أن الخطيب أسبق من الذهبي، فقد توفي الخطيب سنة (463) للهجرة فيما كانت سنة وفاة الذهبي (748) ولذلك كثيرا ما يعتمد الذهبي على الخطيب.

لم تُعرف سنة ولادته، والمشهور أن وفاته سنة (152) للهجرة، توفي في بغداد، ودفن بمقبرة الخُزيران في الجانب الشرقي منها / تاريخ بغداد 1 / 215 /، ويروي لنا البغدادي سبب قدومه بغداد بسند طويل (... لما أراد محمد بن إسحق الخروج إلى العراق. قال له أحد أصحابه: إني أحسب السفر غدا خسيسة يا أبا عبد الله، وكان إبن إسحق قد رقَّ. فقال إبن إسحق: والله ما أ خلاقنا بخسيسة ولربما قَصُرَ الدهر باع الكريم) / تاريخ بغداد ص 220 / وحاله في هذا حال الكثير من مروجي الرواية وناقلي الحديث،ففيهم جمهرة كبيرة كانت تهاجر لمثل هذا الطلب، ولذا ليس سرا، أن بعضهم ولد ونشا فقيرا، ولكنه ما أن دخل هذا العالم حتى صار مثريا، صاحب الدار والدثار بشكل مفرط، ولعل منهم الزهري وعرووة بن الزبير وغيرهما.

ولقد دخل إبن اسحق بمعركة ضارية مع بعض المحدثين والروائيين من ذوي الشأن الكبير في هذا المجال، ومنهم الفقيه الكبير أنس بن مالك، و المحدث المشهور هشام بن عروة بن الزبير، وغيرهما، ويحكي لنا إبن النديم (يُحكَى أن أمير المدينة رُقِي إليه أن محمدا يغازل النساء، فأمره بإحضاره، وكانت له شعرة حسنة، فرقق رأسه، وضربه أسواطا، ونهاه عن الجلوس في مؤخرة المسجد، وكان حسن الوجه) / فهرست إبن النديم ص 105 /. والرواية يجب التؤكد منها، لأن الرجل كان محط غمز ولمز، بل محط هجوم كاسح بالأسم الصريح، وذلك من أعداء وخصوم كبار، وردوا عالم الرواية ود روبها، وتمرنوا على التعاطي بها، وهذا العالم بقدر ما هو ميدان تحصيل ومباراة فكرية وفنية، هو في الوقت ذاته مجال كسب مادي، وهيبة جماهيرية. وقد أُتهم أنه (يحمل اليهود والنصارى ويسميهم في كتبه أهل العلم الأول) / المصدر ص 105 / وأُتهم بوضع الأشعار في السيرة، بغرض مادي وليس بعد تحقيق، ومن الجدير بالذكر أن جل ما جاء من شعر في سيرة إبن إسحق مشكوك النسبة، وقد كان إبن هشام شديد النقد عليه كما هو واضح لكل من يقرا تلك الأشعار، ويقرا في الوقت ذاته تعليقات إبن هشام عليها.

 

سبب تأليفه السيرة

لم يكن تاليف إبن اسحق للسيرة من دافع ذاتي، رغم أنه كان معروفا في الوسط الروائي الإسلامي، كونه إخباريا يتعاطى العمل بالرواية النبوية الشريفة، بل وكما ينص الخبر إنما قام بهذا العمل استجابة لرغبة الخليفة العباسي المنصور، ففي تاريخ بغداد (أخبرنا الأ زهري قال نبأنا عبيد الله بن عثمان بن يحي قال سمعت حامدا أبا علي الهروي يقول سمعت الحسن بن محمد المؤدب قال سمعت عماراً يقول:دخل محمد بن إسحق على المهدي وبين يديه أبنه فقال له: أتعرف هذا ياابن اسحق؟ قال: نعم هذا ابن أمير المؤمنين. قال: إذهب فصنف له كتابا منذ خلق الله تعالى آدم إلى يومك هذا. قال: فذهب فصنَّف له هذا الكتاب. فقال له: لقد طولته يا بن اسحق إذهب فاختصره. قال: فذهب فاختصره، فهو هذا الكتاب ا لمختصر، وألقى الكتاب الكبير في خزا نة أمير المؤمنين...) / ص 221 / ولكن بعض المؤرخين والرواة يصححون كلام البغدادي، ذلك إن الخليفة المعني هنا هو المنصور العباسي، والذي كان بين يديه هو المهدي / المصدر ص 221 /

وإذا كان ذلك صحيحا، فهل تجرد إبن اسحق تماما وهو يكتب السيرة؟ أي هل نسي مرة أنه يكتب للمهدي أو لبني العباس في نهاية التحليل؟

هل كان بريئا في كل ما سطر من أخبار وحوادث ووقائع وأشعار وهو يعلم أنه يكتب بطلب من المنصور العباسي؟

أعني ما أقول...

 

ما ذا يقول الرجاليون؟

أضطربت كلمة علماء الرجال السني في تقييم الرجل، نستعرض هنا بعض أقوالهم وبعض موا قفهم، ونعلق عليها في الوقت المناسب.

[... قال المفضِّل الغلابي: سألت يحي بن معين عن إبن اسحق، فقال: كان ثقة حسن الحديث... قال إبن المديني،عن سفيان،عن الزهري، قال: لا يزال بالمدينة علم ما بقي هذا ــ عنى إبن اسحق ــ وقال البخاري: رأيت علي بن عبد ا لله يحتج بحديث إبن إسحق، وذكر عن سفيان أنه ما رأي أحدا يتهمه... قال يعقوب بن شيبه: سألت عليا كيف حديث ابن اسحق عندك صحيح؟ فقال: نعم، حديثه عندي صحيح... قال يحي بن معين: محمد بن إسحق ثبت بالحديث... ] / راجع هذه التقييمات في كتاب الخطيب البغدادي، وأعلام الذهبي /

نستفيد من هذه التقييمات التوثيق الذي لا ينحصر في مجال محدد من مجالات الرواية والنقل، سواء كان في الاحكام الشرعية أو المغازي.

ولكن هذا التقييم يقابل تقييم يخالفه بعض الشيء.

[... أخبرنا إبن أزرق قال: أنبأنا عثمان بن احمد قال نبأنا حنبل بن أسحق، قال سمعت أبا عبد الله يقول: إبن إسحق ليس بحجة.... نبأنا أيوب بن اسحاق بن سافري قال: سألت أحمد بن حنبل.فقلت: يا أبا عبد الله أبن اسحق إذا تفرد بحديثه تقبله؟ قال: لا والله، إني رأيته يحدث عن جماعة با لحديث الواحد، ولا يفصل كلام ذا من ذا... قال الميموني: حدَّثنا أبو عبد الله بحديث أستحسنه عن إبن إسحق، فقلت: يا أبا عبد الله! ما أحسن هذه القصص التي يجئ بها ابن اسحق! فتبسَّم إليَّ متعجبا...]، وكان أشدهم قسوة على ابن اسحق هو مالك بن أنس، وهو فقيه مشهور، كان يسميه (دجال الدجاجلة)! كذلك كان موقف المحدث المشهور هشام بن عروة بن الزبير، فقد أدعى ابن اسحق كان يروي عن زوجته، فاسشاط عروة، و راح يكيل السباب والشتائم لإبن اسحق / راجع الذهبي والخطيب، مواقع مختلفة /، وقد أتهمه بالكذب، ولأهل المدينة موقف صارم من محمد بن أ سحق، فهم لا يرتضون حديثه، ولا يسمعون له، وكانوا يردعون من يروي عنه قائلين (نحن أعرف به...) / تاريخ بغداد ص 226، وقد حدث ذلك مع المحدث الكبير (يزيد بن هارون) سنة ثلاث وتسعين ومائة بالمدينة، حيث حاول أن يشيع احاديث إبن اسحق ولكن أهل المدينة رفضوا ذلك رفضا باتا / المصدر ص 226، وكان مالك يقول (نحن نفيناه من المدينة) / المصدر ص 223 / وقد كذبه مرة يحي بن معين، وهو من الرجاليين المعروفين! ونقرا تقييما لإبن النديم، ففيه يقول (صاحب السيرة أبو عبد الله محمد بن أسحق بن بشار، مطعون عليه، غير مرضي الطريقة... يقال كان يُعمل له الأشعار، ويؤتى بها ويُسئل أن يدخلها في كتابه في السيرة فيفعل، فضمن كتابه من الأشعار ما صار به فضيحة عند رواة الشعر... وكان يحمل عن اليهود والنصارى ويسميهم أهل العلم ا لأول. وأصحاب الحديث يضعّفونه ويتهمونه...) / فهرست إبن النديم ص 105. وفي هذا السياق يورد المخالفون له والطاعنون فيه أنه متهم بعقيدته، فقد كان يقول بالقدر وكانت ميوله شيعية، مما يزيد من تعقيد القضية أساسا.

وبين هذا وذاك يقف تقييم أخر...

ومفاد التقييم الثالث أن ابن اسحق ثقة ولكن ليس بحجة، أو هو معتبر ولكن دون الاحتجاج به (... وأخبرنا أبو بكر البرقائي قال: سألت أبا الحسن علي بن عمر الحافظ عن محمد بن إسحق بن يسار وعن إبيه فقال: جميعا لا يُحتج بهما، وإنما يُعتبر بهما...) / تاريخ بغداد ص 230 / وهو موقف تكرر من أكثر من رجالي معروف.

والغريب أن (يحي بن معين) وهو من أبرز علماء الجرح والتعديل له أكثر من موقف تجاه الرجل، حتى يُحار المرء كيف يجمع بينها، فهو تارة يقول (إبن أسحق ثبت في الحديث / البغدادي ص 231)، وتارة يقول (... أبو عوانة الأسفراييني، قال: نبأنا الميموني، قال: سمعت يحي بن معين يقول: محمد بن إسحق ضعيف / المصدر ص 231)، وأخرى يقول (... عبد العزيز الطاهري قال: أنبأنا أبو الفضل عبيد الله بن عبد الرحمن الزهري، قال: وجدت في كتاب جدي محمد بن عبيد الله عن يحي بن معين، قال: محمد بن إسحق ليس بذك / المصدر والصفحة)، ورابعة يقول (محمد بن إسحق ثقة، ولكنه ليس بحجة / المصدر ص 232). ربما تقوم محاولات للجمع ولكنها في تصوري محاولات لا تقدر على رتق هذه الفتوق المدهشة في موقف يحي بن معين من هذا الرجل.

 

حصحصة الموقف

والآن هل يمكن إتخاذ موقف نهائي من الرجل فيما يرويه؟ موقف يتقوم إما بالرفض المطلق أو القبول المطلق، أي إما كونه ثقة أو دجالا من الدجاجلة كما يقول مالك، أو كذاب عدو الله كما ييقول هشام بن عروة؟

يطرح بعضهم حلا وسطا، لحمته أن محمد إبن أسحق ليس حجة، ولا يؤخذ به في الأحكام، ولكن هو حجة في المغازي!! ولست أفهم هذه الموازنة اليتيمة، فإن من يكذب أو من لا يؤتمن على رواية السنن كيف يؤتمن بروايته عن الحروب مثلا؟ معادلة مضطربة مرتبكة، فهل الثقة قابلة للتجزئة بهذه الطريقة الميكانيكية الفجة؟ ويبدو لي أن حرص بعضهم على توثيق الرجل في ميدان السيرة، إنما لسبب عميق، ذلك أن سيرته هي التي أسست للزمن الإسلامي، ولو أن محمد بن أسحق حُذِف من قائمة الثقاة، وتُرِكت روايته، سوف ينعكس ذلك سلبا ـ في تصور هؤلاء ــ على مسيرة الإسلام أساسا، فيما أعتقد أن أ خبار صحيحة عن سيرة الرسول الكريم مهما كانت قليلة ونادرة هي أطيب لرسول الله من هذا الكم الكثير من الروايات التي سببت له وجعا مزعجا، وللإسلام ما هو بري منه، وذلك مهما كانت تلك الروايات مفصلة وكثيرة.

إن حل مشكلة محمد بن إسحق لا تُحسم بطريقة الحل الرياضي، أي بين قبول مطلق ورفض مطلق، بل حلها يكون بمحاكمة النص على ضوء القرآن الكريم، وأصالة السماحة والعقل في الإسلام، وما نعرفه عن الرسول من رحمة وحب للبشر كما جاء في كتاب الله، ومن خلال المقارنة بالروايات الأخرى، وبحذف وتبعيد الخرافات والأساطير، وملاحظة مديات الغلو في الأشخاص، وبمقاربة الظروف التي كُتب فيه نص محمد بن اسحق، وما يمكن أن نكشتفه من تناقضات داخل النص، وغيرها من الأليات الأخرى.

 

معضلة أهل الجرح والتعديل

من الغريب أن يتعامل بعضهم مع أحكام أهل الجرح والتعديل وكأنها تقييمات نهائية، ولذلك يهرع بعض اهل التحقيق والدراسات إلى مصادر الجرح والتعديل، وفي ضوء تقاريرها يتخذون الموقف النهائي، في حين أن هؤلاء الذين يمارسون عملية أخلاقية خطيرة (أي أهل الجرح والتعديل)، هم بالذات محل محنة قد لا نغالي أن نقول هي الأخرى إخلاقية.

كانت هنك مشكلة أخلاقية دارت بين كل من هشام بن عروة بن عبد الله الزبيري وبين صاحبنا محمد بن إسحق، كذلك كان هناك سجال بين كل من محمد بن إسحق وبين مالك، فقد أكد بن إسحق أنه كان يروي عن زوجة هشام، فما كان من هذا إلاّ أن ينهال عليه بالسباب والشتائم، حتى أتهمه بالكذب، مدعيا أنه منذ بنى بها لم يرها أحد، فكيف تسنى لمحمد بن أسحق رؤيتها! ويجري نقاش طويل ومعقد في هذه القضية بين راد ومؤيد، وفي نفس المستوى إتهم مالك بن أنس محمد بن أسحق بالكذب الصريح، بل قال عنه دجالا، ويقال أن مالك طعن به، لا ن ابن اسحق كان يطعن في نسب مالك!! فكان ذلك السجال اللا أخلاقي بين الرجلين.

التقط الذهبي هذه المفردة المزعجة وكان يتألم منها، ويزيد عليها بأن تلك ظاهرة ليست بدعة، وينقل عن البخاري قوله في ذلك [ قال البخاري: ولو صح عن مالك تناوله من إبن اسحق، فلربما تكلّم الإنسانُ، فيرمي صا حبه بشي واحد، ولا يتهمه في الأ مور كلها. قال: وقال إبراهيم بن المنذر عن محمد بن فليح: نه اني مالك عن شيخين من قريش، وقد أكثر عنهما في ( الموطأ) وهما ممِّن يُحتج بهما، ولم ينج كثير من الناس، من كلام بعض الناس فيهم، نحوا ما ذكر عن إبراهيم من كلامه في الشعبي، وكلام الشعبي في عكرمة، وفيمن كان قبلهم، وتناول بعضهم في العرض وا لنفس، ولم يلتفت أهل العلم في هذا النحو إلا ببيان وحجة، ولم تسقط عدالتهم إلا ببرهان ثابت وحجة، والكلام في هذا كثير)!

لا أعتقد أن الخباري بهذا قد حل المشكلة، فمن يقيم المقيم، ومن يعدل المعدل، ندخل في نفق مظلم لا نور فيه ولا خلاص منه!!

يقول الذهبي معلقا على كلام البخاري (قلتٌ: لسنا ندعي في أئمة ا لجرح والتعديل ا لعصمة من الغلط ا لنادر، ولا من الكلام بنفس حاد فيمن بينهم وبينه شحناء وإحنة، وقد عُلِم أ ن كثيرا من كلام الأقران بعضهم ببعض مهدر لا عبرة به، ولا سيما إذا وثّق الرجل جماعة يلوح على قولهم الأنصاف...) / الذهبي 7 ص 40 / لا أريد أن ألغي جهود علماء الجرح والتعديل، فهي نافعة ومفيدة، ولكن أدعي إن الاعتماد عليها بشكل مطلق ومن دون أجتراح آليات جديدة لفحص الر واية، والتعاطي معها، يسبب لنا مشاكل كثيرة، ويسي لرسول الرحمة والحرية، ذلك المحبوب، الرائع الكريم، محمد بن عبد الله صلى الله عليه وأله وسلم. وستكون تكملة كلامنا عن وقعة بدر نصا نصا، خاصة رواية ابن اسحق، في ضوء هذا البيان.

 

يتبع

Ketab_1@hotmail.com

 

Link to comment
Share on other sites

لاف>>كُتّاب إيلاف

 

معركة بدر...فن اللعبة الذكية (الرؤيا)

GMT 10:45:00 2006 الجمعة 13 أكتوبر

غالب حسن الشابندر

 

 

 

--------------------------------------------------------------------------------

 

 

استذكار كـ (مدخل)

 

مر علينا في فقرة (تلخيص سير المعركة) الإشارة إلى رؤية (عاتكة بن عبد المطلب) التي كانت تنذر بشر عميم سوف يدخل كل بيت من بيوت قريش، تلك الرؤية التي كانت تنبئ بأن راكبا على أقبل على بعير له،حتى وقف بالأبطح ــ موقع بين مكة ومنى ــ وراح يهدد وينذر القوم (قريش) بل يشتمهم بأعلى صوته (ألا أنفروا يالَغُدُر...) ــ كناية عن الشتيمة ــ بأن ينتظروا مصرعهم المخيف، ثم تحول الرجل إلى ظهر الكعبة بعد أن إجتاز المسجد الحرام ومن هناك جدد نذيره مقرونا بالشتيمة ذاتها، وفي الثالثة تحول إلى جبل (قبيس) المشرف على مكة من شرقها، وهنا تفجرت الرؤية عن نتيجتها العظمى، فقد صرخ بذات الشتمية والنذير، ورمى صخرة (فأقبلت تهوى، حتى إذا كانت بأسفل الجبل ارفضَّت ـ تفتت ـ فما بقي بيت من بيوت مكة ولا دار إلاّ دخلتها منها فلقة...).

كانت هذه الرؤية قبل أن يصل (ضمضم) الذي أرسله أبو سفيان لقريش كي يعلمها خبر تصدي محمد للقافلة القرشية!

أخبرت عمة النبي الكريم (عاتكة بنت عبد المطلب) أخاها عم النبي (العباس بن عبد المطلب) وأئتمنته على كتمانها، وأشارت عليه بأن يحتاط لقومه من أن يصيبهم نصيب من شر تلك الصخرة اللاهوتية الغريبة! ولكن العباس كان قد حكى بها لصديقه (الوليد بن عتبة بن ربيعة) الذي بدوره أشاعها غير آبه بوصية العباس بكتمانها، فشاع الخبر كالنار في الهشيم، وتحولت إلى حكاية متداولة بين أهل مكة ونسائها على وجه الخصوص.

 

أبو جهل يدرك قواعد اللعبة

تناهى إلى مسمع إبي جهل موضوع الرؤيا المزعومة، فتوجه للعباس يقول له (... يا بني عبد المطلب، أما رضيتم أن يتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم، وقد زعمت عاتكة في رؤاها أنه قال : أنفروا في ثلاث، فسنتربص بكم هذه الثلاث، فإن يكن حقا ما تقول فسيكون، وإن تمض الثلاث ولم يكن من ذلك شي، نكتب عليكم كتابا أنكم أكذب أهل بيت في العرب...).

لقد أدرك أبو جهل المغزى البعيد للرؤية، رؤية عمة النبي الكريم (عاتكة) فهذا الرجل هو إبن أخيها محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، والقوم هم أعداؤه التقليديون (قريش) و الصخرة هي قوته أو سلاحه، والبعير هو بعيره، والنداء نذير لقريش بأنها سوف تكون في الغابرين. لقد تعامل إبو جهل مع (الرؤية) بمنطق المحلل السياسي البارع، لم تكن هناك رؤية بل حرب نفسية، و الغريب أن هذه الرؤية حصلت قبل أن يأتي (ضمضم) بخبر تصدي النبي الكريم لقافلة قريش!

لم يأبه أبو جهل للرؤية، ولذلك لم يكتف بتكذيبها، بل راح يتحدى، ويتحدى زعيم المطلبين العباس بن عبد المطلب، لم ينكر أو يستهجن أبو جهل (رؤيا) عمة النبي إيمانا منه بخرافية الحلم كحقيقة مستقبلية، تلعب دورا جوهريا في تأسيس التاريخ، فهذا الإعتقاد غير معقول من قبل إبي جهل، لأن عصره كان عصر إيمان وتصديق بهذه الرؤى، وكثيرا ما يصممون مواقفهم في الحياة، وربما تجاه قضايا كبيرة بناء على هذه الرؤى، فقد كان لها رواج فكري وروحي في مجتمع إبي جهل، حروب دامية سبّبت هذه الرؤى، حروب دامت زمنا مضنيا شاقا على الناس، وكان لها مفسرون ومؤولون، يحتلون مكانة راقية في هيكلة المجتمع أنذاك، بل الغريب أن لا يتلفت إبو جهل للرؤيا إلتفاتة جد ورعاية، فيما يقولون أن أبا لهب روعته الرؤيا وهي التي حجبت أشتراكه في الحرب!! / سير أعلام الذهبي 2 ص وإنما كذّب أبو جهل رؤيا (عاتكة) لأنه فعلا لا يؤمن بنبوة محمد، ولقناعة كاملة لديه أنها لعبة (مُطلَّبية) في سياق حرب نفسية ضد قريش لصالح محمد عليه الصلاة والسلام، فعشيرة محمد القريبة غير مستعدة للتخلي عنه فيما تعرضت حياته للخطر، بصرف النظر عن صدق نبوته أو عدم صدقها، وبصرف النظر عن إيمانهم بنبوته أو عدم إيمانهم.

أسطر كل هذا بناء على صحة الرواية، أي رواية رؤيا عاتكة، عمة النبي، هذه المرأة التي غابت أخبارها عنا بعد هذه الرؤيا الغيبية الغريبة، حتى يقول الذهبي (عاتكة بنت عبد المطلب، أسلمت وهاجرت، وهي صاحبة تلك الرؤيا في مهلك أهل بدر، وتلك الرؤيا ثبَّطت أخاها أبا لهب عن شهود بدر، ولم نسمع لها بذكر في غير هذه الرؤيا) / المصدر 2 ص 272 / وللعلم أن الرواية التي هي ادق تقول أن أبا لهب لم يحضر لأسباب أخرى، ربما نأتي على بيانها مستقبلا.

 

موقع (الرؤيا) الفني من جسم السرد

هذه (الرؤيا) ليست جزء من رواية إبن عباس الرئيسية التي تولَّت سرد حكاية المعركة، بل هي رواية قائمة برئسها، كسر بها إبن اسحق أو إبن هشام سردية إبن عباس الرئيسية منذ السطور الأولى، وتحولَّت إلى نقطة عبور فنية رائعة للدخول إلى تفاصيل السردية اللاحقة، بحيث لا تصلح تلك التفاصيل كـ(فقرات) طبيعية في أصل سردية إبن عباس دون هذه النقطة المفاجئة، أي دون هذه (الرؤيا)وفي ذات الموقع المذكور.

لقد صُدِمَ العباس بن عبد المطلب لشيوع الرؤية، وتخوَّف شر إبي جهل، وأراد أن يعالج الموضوع فانكر حدوث الرؤيا من الأ ساس، وفيما هو كذلك أستفتزت نساء بني عبد المطلب غيرة العباس، فقد كنّ شديدات الاحتجاج على العباس، ذلك إن أبا جهل نال منهن بسبب هذه الرؤية بشكل وآخر فكيف تقبل غيرته ذلك!! فما كان من العباس إلا أن قرر (وأيم الله لأتعرَّضن له، فإن عاد لأكفِينَّكنَّه) / المصدر ص 359 / وفي طريقه إلى المسجد كي يتعرض لأبي جهل حدث ما قلب المعادلة رأسا على عقب، حيث حضر رسول إبي سفيان (ضمضم / الأسم الغريب الذي يوحي بمهمته على درجة عالية من الدقة والمهارة /)، وهناك صرخ في الوادي (... يا معشر قريش، اللطيمة اللطيمة ــ الأبل التي تحمل البزّ والطِّيب ــ أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه...)/ ص 360 / وكان أبو جهل يسمع! وبعد هذه اللقطة يبدأ أبن اسحق بسرد بقية الفقرات، وفي اولها تجهيز الركبان نذيرا بالمعركة. وبالتالي، كان موقع (الرؤيا) من جسد الحكاية كلها، بمثابة نقطة وصل، نقطة عبور، لقد أورد ابن اسحق وصول (ضمضم) في سياق حديثه عن رؤيا عاتكة وملابسات موقف العباس بن عبد المطلب، ولم يورد هذا الوصول متصلا بأصل رواية إبن عباس المركزية، فقد أنهى بداية السرد بقوله (... فاستأجر ـ أي أبو سفيان ــ ضمضم بن عمرو الغفاري، فبعثه إلى مكة وأ مره أن يأ تي قريش فيستنفرهم إلى أموالهم، ويخبرهم أن محمدا قد عرض لها في أصحابه، فخرج ضمضم بن عمرو سريعا إلى مكة...) / ص 358 / ويسدل الستار على المشهد ليبدا بقصة الرؤيا، وينهيها بوصول (ضمضم)، وبعد ذلك ينتقل إلى بقية ملاحق الرواية العباسية!! أقصد رواية ابن اسحق عن إبن عباس.

هناك إذن عمل معماري مخدوم، مخدوم فنيا، عمل معماري تتجلى فيه عبقرية تصميم الحدث، كيفية الربط بين مجموعة أجزاء ذات أصول متعددة ودمجها في إطار متجانس، كي تتجلى صورة مقنعة، بل صورة تدعو إلى متابعتها، سواء قراءة أو سماعا.

من حقنا أن نسأل ونقول لماذا لم يؤجل إبن إسحق خبر الرؤية إلى ما بعد وصول (ضمضم)؟ ولماذا جعل إبن اسحق خبر وصول (ضمضم) إلى مكة جزء لاحقا برواية الرؤيا؟ فيما هي ليست جزء منها أساسا، بل جزء من بنيان السرد العباسي، أي السرد المنسوب لإبن عباس.

ونسأل ببراءة وموضوعية، ترى هذه القدرة التي يتمتع بها إبن أسحق على نحت السرد الفني المحكم الحلقات، المؤَّسًّس من أصول وروافد متعددة، في سياق وحدة فنية بارعة... هذه القدرة القصصية هل هي بريئة تماما في علاقتها بما يروي، وبما يحكي؟

 

سند الرؤيا الأولى

يقول إبن اسحق (... فأخبرني منْ لا أتهم عن عكرمة عن ابن عباس، ويزيد بن رومان عن عروة بن الزبير، قالا : وقد رأت عاتكة...) / ص 358 /.

والسند مرسل، فان مصدر طريق إبن أسحق إلى عكرمة عن إبن عباس مجهول بـ (من) أخبره، فهذا الذي لا يتهمه إبن إسحق ربما نحن نتهمه، وربما غيرنا يتهمه. والسند الثاني يصل عند عروة بن الزبير، وهو تابعي...

لقد جاءت هذه الرؤية من طرق متعددة كما يقول أهل الحديث، فقد أوردها الحاكم النيسابوري في الجزء الثالث ص 19، إلا أن سنده ضعيف، ورواه الطبراني بإسنادين أحدهما مرسل، والآخر مرفوع من حديث مصعب بن عبد الله... كما في مجمع الهيثمي 6 / 732، وله سند أخر عن إبن عباس لكنه ضعيف هو الأخر، كما أورده إبن مندة بسنده عن عاتكة بنت عبد المطلب وسنده ضعيف كما قال إبن حجر في كتابه الموسوعي الجميل الإصابة في معرفة الصحابة الجزء 4 صفحة 347!!

إذن نحن بين يدي سند يترواح في مكانه، لا يقوى على النهوض كدليل قوي على حصول هذه الرؤيا الميتافيزية الغريبة، تلك الرؤيا التي أرعبت قريش كما يقول موسى بن عقبة في مغازيه (... ففزعوا، وأشفقوا من رؤيا عاتكة، ونفورا على كل صعب وذلول) / نقلا عن مغازي الذهبي ص 104 / فيما كانت الرؤيا حافزا للقريش لتجنيد قواها، كل قواها لخوض معركة وجود مع محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم!!!

 

العباس بن عبد المطلب

كان العباس بن عبد المطلب بطل الرواية، رواية الرؤيا، كان المؤتمن عليها، وكان راس الحربة في مواجهة إبي جهل، وكان حامي حمى النساء الهاشميات، وكان كل ذلك تمهيدا لتاريخ مشتعل بالنبل والبطولة للعباس، فقد أفادت بعض الاخبار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحذر من إسر العباس أ و قتله لانه مكرَه على القتال، ولم يؤسر أسرا عاديا، فقد اسره في الحقيقة ملك عظيم، ولم ينم رسول الله ليلته حتى فك أسر العباس... لا أريد أن أطيل في هذه النقطة، وسوف اجليها في فرصة أخرى بقوة الله سبحانه وتعالى.

 

يتبع

ketab_1@hotmail.com

 

 

Link to comment
Share on other sites

معركة بدر والرؤى الخائبة!

GMT 14:00:00 2006 الثلائاء 17 أكتوبر

غالب حسن الشابندر

 

 

 

--------------------------------------------------------------------------------

 

 

تعزيز الرؤيا المزعومة بالنظير!!!

 

هذه الرؤيا ــ رؤيا عاتكة عمة النبي الكريم ــ يبدو كانت بحاجة إلى معزز من نوعها، وبالفعل كانت هناك رؤيا ثانية لها علاقة طولية بالرؤيا الأولى ، فإذا كانت الأولى قبل أن يصل (ضمضم) بالخبر، فأن الثانية بعد أن وصل (ضمضم) بالخبر! بل وبعد أن تجهزت قريش وتحركت ووصلت إلى الجُحفة ــ وهي تزحف نحو محمد لتؤدبه وأصحابه الكرام.

تقول رواية إبن اسحق عن إبن عباس ــ وهي الرواية العمدة ــ حول الرؤيا الثانية (... وأقبلت قريش حتى وصلت الجحفة رأى جهيم بن الصلت بن مخرمة بن ا لمطلب بن عبد مناف رؤيا، فقال : رأيت فيما يرى النائم، وإني لبين النائم واليقظان إذ نظرت إلى رجل قد أقبل على فرس حتى وقف، ومعه بعير له، ثم قال : قُتِل عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، و أبو الحكم بن هشام ، وأمية بن خلف، وفلان وفلان، فعدد رجالا ممن قُتِل يوم بدر، من أشراف قريش، ثم رأيته ضرب في لبة بعيره، ثم أسله في العسكر، فما بقي من خباء من أخبية العسكر إلى أصابه نضح من دمه).

تقول الروا ية ذاتها (قال ـ إبن اسحق برواية إبن عباس ــ فبلغت أبا جهل، فقال : وهذا أيضا نبي آخر من بني المطلب، سيعلم غدا من المقتول إن نحن إلتقينا)!

ونظرة متفحِّصة للرؤيا الثانية تطلعنا على أنها على طول الرؤيا الأولى، كانت إمتدادا لها، هناك سير من العام إلى الخاص، من الكلي إلى الجزئي، من الغموض إلى الوضوح، أي هناك قدر يسير نحو ذاته، يتحقق خطوة خطوة، فإذا كانت الرؤيا الاولى خالية من الأسماء الصريحة، فهذه الرؤيا تذكر أسماء صريحة، وبالتالي، هناك تطور جوهري في مسير الرؤيا. وقد عدها أبو جهل هي الأخرى لعبة، لا تختلف في هدفها البعيد عن هدف الرؤيا المُطلبية الاولى، وأتخذ منها موقف التحدي، أي كرر الموقف ذاته من الرؤيا الأ ولى.

هناك تجاذب مثير بين كل من الرؤيا الأولى والرؤية الثانية، كلاهما مطَّلبيَّة المصدر، كلاهما نذير مخيف للقريش بالمصير الأسود ، كلاهما كان محل تندر إبي جهل، بل الرؤيا الثانية بمثابة تفسير وتحليل للرؤيا الأولى ، فهل هناك فن أبدع من هذا الفن ؟ وهل هناك قدرة أعمق من هذه القدرة على نحت رواية متسلسلة منطقيا، أو متسلسلة بالحدث، ذلك التسلسل الذي يفرض عليك ربط المستقبل بالحاضر بالماضي ؟ وأعود للقول أننا بين يدي مسيرة قصصية مخدومة تتوسطها عقدة مركبة ، يسبقها تمهيد، ويلحقها تصعيد، والنتيجة مخدومة سلفا.

 

مصير بائس!

 

لقد كانت صاحبة الرؤيا الأولى عاتكة بنت عبد المطلب، عمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإذا كان إبن سعد في طبقاته يقول أنها هاجرت وأسلمت، فأن كاتب السيرة المعروف(أحمد زيني دحلان مفتي الديار الشافعية في مكة المكرمة ) يقول (وهي مختلف في إسلامها) / هامش الحلبية 1 / ص 365 /. ولست أدري كيف يخفت هذا الصوت في أدبيات العرب والمحدثين وأهل التاريخ وهو صوت النذير الذي كان سببا في تصعيد حدة المعركة، وفي تسريع خطواتها نحو قدرها المقدَّر! الصوت الذي استفز أبا جهل، وحول نية محمد إلى حقيقة ماثلة بين يدي قريش!!

كذلك الحال مع صاحب الرؤيا الثانية، أي جهيم المطلبي، فهو أشبه غائب من التاريخ، فيما هو الذي حدد مصير زعماء قريش في رؤيا، وجاء الواقع مصدقا لهذه الرؤيا الغيبية الميتافيزية الغريبة، فكيف يغيب مثل هذا الصوت في لجة التداول السحري والعجائبي والسمري في قصص واحاديث وتاريخ العرب ؟

الرؤيا سواء كانت الأولى أو الثانية حدث مهم، خطير، ومن تجاربنا الوجدانية أن الحدث الكبير إذا إقترن بمجهول، أو إنسان عادي، سيكون ذلك مدعاة شهرة، وتتبع، وتاريخ، فالأقرب للواقع والواقعية، من وجهة نظر وجدانية، كان من المفروض أن تشهر هذه الرؤيا صاحبها، ولا يبقى مجهولا في طي التاريخ، حيث لا نعرف عنه إلا لمما، بعضه مشكوك فيه. فهي ليست أكثر من كونها عمة رسول الله، تزوجها في الجاهلية أمية بن المغيرة، وولدت له عبد الله وزهير، الاول أعرض عن الإسلام والثاني اسلم وممن لعب دورا في نقص صحيفة المقاطعة، ولكن تغيب في لجة التاريخ، فيما هي بشرّت بتغيير التاريخ!!!

نعم تنسب بعض الأسفار شعرا لعاتكة، ولكن يعلق أهل الدقة والتحقيق من القدامى أنها أشعار مشكوكة النسبة لصاحبتها!! كذلك الحال مع مكملها في الرؤيا، أي جهيم، فلم تنصفه رؤياه من الشهرة والحضور، فيما هي التي أصدقت الواقع، وكشفت عنه قبل أن يقع!!!

 

حوليات مهمة حول الرؤيا!

 

أراني مضطرا للكلام عن هذا السند مرة أخرى، لأسباب فنية لا أعتقد تغيب على القاري اللبيب، فأقول هو نفسه سند الرواية العمدة، بحكم المرسلة لأن إبن عباس لم يحضر الواقعة، والراوية الأول ــ أي إبن اسحق ــ شخصية محل إشكال وتداول مزعج، وذات الرؤيا جزء من خبر يعترف إبن إسحق أنه ليس صافيا، بل هو خليط من مجموعة أخبار، إجتهد بجمعها بعضا ببعض، رغم أختلاف وتعدد الأسانيد.

لقد رأي جهيم بن عبد المطلب بن عبد مناف، رأي فيما يرى النائم أن عتبة بن ربيعة قتل، وأن شيبة بن ربيعة قتل، وأن أبا جهل قُتل ، وان أمية بن خلف قد قتل، وكان ذلك هو الواقع، فقد نال كل واحد من هؤلاء مصيره المحتوم في معركة بدر، أي القتل، ومعهم زعماء كبار من قريش، وهو الأمر الذي نوهت عنه الرؤيا أيضا (... وفلان وفلان... من أشراف قريش)، وليس هناك دليلا على كذب(الرؤيا) من تحققها حرفيا في العالم الخارجي.

وكم هو قدر مخيف ومؤلم أن تبني أمة فكرها ومصيرها وتاريخها وعزتها ومعاركها مستشهدا برؤى ؟ ذلك هو القدر التافه.

Ketab_1@hotmail.com

يتبع

Link to comment
Share on other sites

معركة بدر ومشروع إعادة كتابة السيرة النبوية

GMT 18:15:00 2006 الخميس 19 أكتوبر

غالب حسن الشابندر

 

 

 

--------------------------------------------------------------------------------

 

 

مدخل الفكرة

 

تتواصل صيحات المخلصين والمحبين للحقيقة لإعادة كتابة السيرة النبوية، وهو مشروع ليس حيويا، بل مشروع مصيري في تصوري، ذلك أن سيرة المصطفى وكما وردت في مصدرها الأساسي، أي سيرة إبن اسحق، تحولت إلى مرتع للتزود بقيم الإرهاب والقتل والحذف والتكفير والتدمير، كما أنها تحولت إلى مصدر لأعداء محمد لتسطير التهم بحق نموذج من الإضطراب الخبري

 

هناك نماذج مزعجة من الإضطراب الخبري مبثوثة في ثنايا الأخبار التي وصلتنا من الرواة في موضوعة المعركة، وهذه النماذج المضطربة هي الاخرى تدعونا إلى مراجعة جادة فيما جاء عن معركة بدر، أضع هنا بين يدي القاري نموذجا سريعا.

هذا النموذج يتعلق بموقف الشيخين الجليلين إبي بكر وعمر رضي الله عنهما في المعركة لما عرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكرة التصدي لقريش بعد أن صار واضحا له وللمسلمين أن أبا سفيان نجا بالقافلة، وإن قريش توجهت للانتقام منه ومن صحبه الكرام، ومن ثم الخلاص من خطره الجسيم الذي بات يهدد قريش في أهم نقطة من نقاط قوتها، تلك هي تجارتها.

جاء في سيرة إبن هشام بالسند العمدة [... وأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عِيرهم، فأستشار الناس، وأ خبرهم عن قريش، فقام أبو بكر الصِّديق فقال وأحسن، ثم قام عمر بن الخطاب، فقال وأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو فقال : يا رسول الله، إمض لما أراك الله فنحن معك، وا لله لا نقول لك ما قالت بنو إسرائيل لموسى (فاذهب أنت وربك فقاتلا إ نا ها هنا قاعدون)، ولكن إذهب أنت وربُّك فقاتلا إنا معكما مقاتلون...) / المصدر 1 / 363 /. ويحير المرء لماذا أخفى المصدر ـــ مصدر الروايةـــ قول الشيخين وهو قول حسن كما في النص، وذلك أسوة بقول ا لمقداد بن عمرو!، من الطبيعي أن هذا السؤال مشروع، لأن لا يوجد أي داع لإخفاء هذا القول الحسن، سواء على لسان أبي بكر أو على لسان عمر رضي الله عنهما.

وقد أمضى ذلك كل من الطبري والواقدي تبعا لإبن إسحق، حيث أشار الأول إلى المصدر فيما أخفاه الثاني تحت ستار : قالوا! ولكن الذهبي تلا عب في النص تلاعبا مفضوحا ، فقد قال (... وأتاه الخبر بخروج نفير قريش، فاستشار الناس، فقالوا خيرا. وقال المقداد بن الأسود يا رسول الله،إمض لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى... وقال سعد بن معاذ : يا رسول الله لو إستعرضت بنا هذا البحر لخضناه معك...) / ا لمصدر ص 52 / والرجل تلاعبَ في النص تلاعبا ماهرا، فهو لم يذكر إسمي الشيخين الجليلين، فهل إستذكر بينه وبين نفسه أن ما جاء في سيرة إبن اسحق من أن كلا من أبي بكر وعمر(رض) أحسنا القول إنَّما هو مُعارَضّ بما جاء في صحيح مسلم ومسند أحمد بن حنبل كما سيأتي بيانه بعد سطور؟حيث يحمل صبغة سلبية مثيرة للغاية، فعالج الإشكالية بهذه الهروبية المفضوحة. علما أنه صراحة وفي بداية سرده للمعركة أكد بما لا مجال فيه للشك أن مصدره هو سيرة إبن إسحق!!! / تاريخ الإسلام، المغازي ص 53 /.

والأن ماذا جاء في صحيح مسلم ومسند إبن حنبل كي تتضح لنا الصورة السابقة، الصورة التي نوهنا عنها في تعليقنا على تلاعب الذهبي في نص مصدره؟!

نقرا في صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة بدر، رقم (1779)، وفي مسند أحمد بن حنبل الجزء 3، ص 188، وا لجزء 3 ص 100، والجزء 4 ص 228، والجزء 6 ص 29، من حديث أنس بن مالك قوله (... أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شاور حين بلغه إقبال إبي سفيان قال : فتكلم أبو بكر فأعرض عنه، ثم تكلم عمر فأعرض عنه، فقام سعد بن عبادة فقال إيانا تريد يا رسول الله؟ والذين نفسي بيده لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا، قال : فندب رسول الله الناس فأنطلقوا)!!

كان هناك إعراض من قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تجاه ما قاله الشيخ الجليل أبو بكر رضي الله عنه، كذلك تجاه ما قاله الشيخ الجليل عمر بن الخطاب ر ضي الله عنه! وهل يعرض رسول الله عن القول الحسن أيا كان مصدره حتى لو كان مشركا، فكيف يكون وهو يصدر من أعز أصحابه الكرام؟

والغريب أن القطعة الاخيرة من الرواية، أي ما قاله سعد بن معاذ، يرويها إبن إسحق في مكان أخر، في سياق كلام لرسول الله كان قد أستشم منه سعد أن رسول الله كان يريد معرفة موقف الأنصار من مشروع التصدي للقريش ، فجاء كلام سعد ذاك!

رواية إبن اسحق تذكر صراحة أن الحوار بين الرسول والشيخين الجليلين رضي الله عنهما، وما قاله المقداد كان بعد أن علم الرسول صلى الله عليه وأله وسلم بقرار قريش الحرب على النبي والرسالة ، فيما يورده مسلم واحمد بن حنبل بعد ان علم الرسول بمقدم قافلة إبي سفيان من الشام إلى مكة! وبالتالي، نحن بين يدي إضطراب أخر، في نقطة واحدة، كان السابق إضطرابا في المضمون، وهنا إضطراب في المناسبة!

ومن الصعب القول بأن هناك موقفين، الأول كان بعد وصول خبر قافلة إبي سفيان، والثاني بعد وصول خبر توجه قريش، وإن لكل منهما روايته الخاصة به. ولذلك لم يقدم أحدهم على الجمع بين الخبيرن، وذهب أهل الحديث تقديم ما جاء في الصحيح والمسند على ما جاء في سيرة إبن إسحق.

نقرا في غزوات موسى بن عقبة [ ثم سار لا يلقاه خبر ولا يعلم بنفْره قريش، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أشيروا علينا.

فقال أبو بكر : أنا أعلم بمسافة الأرض...

وقال عمر : يا رسول الله إ نها قريش وعزها، ولله ما ذلت منذ عزَّت، ولا آمنت منذ كفرت، وا لله لتقاتلنَّك ، فتأهب لذلك.

فقال : أشيروا عليّ.

قال المقداد بن عمرو : إنَّا لا نقول لك كما قال أصحاب موسى (إذهب أنت وربك فقاتلا إنَّا ها هنا قاعدون) ولكن إذهب أنت وربُّك فقاتلا إ نا معكم متَّبعون...

فقال : أشيروا علي ّ.

فلما راي سعد بن معاذ كثرة إستشارته ظن سعد أن يستنطق الأنصار... ] ــ نقلا عن تاريخ الإسلام للذهبي، المغازي ص 107 /

هل كانت تلك هي كلمات الصديق والفاروق؟

لماذا أعرض عنهما الرسول الكريم؟

هل في ذلك ما يدعو للإعراض؟

وجواب كل من الشيخين يمكن أن يُفسر من هذا الدارس أو ذاك بما يختلفان به أختلافا كبيرا، ذلك إن المسافة بين الإعراض عن الكلام وبين كونه حسنا ليست بالبسيطة، ومن هنا يصعب الجمع بينهما.

لست في مقام بيان أن هناك إضطراباً في نصوص معركة بدر، وإن ما ذكرناه يشكل نموذجاً واضحاً على ذلك، ولكن ألذي أريد أن اقوله، إن وراء هذه الصيغ المختلفة قوى تتحرك، قوى تتصارع، قوى كثيرة، تجتمع في رحابها الخفي مصا لح ومطامح، تحديات مذهبية ورؤوية، ذكريات تاريخية، صراعات قبائل وعشائر وأفخاذ وإ نساب.

 

 

هذا الإنسان النبيل، وهو بري منها، فضلا عما أحتوته هذه السيرة المزعومة من خرافات وأساطير وخيالات، كما أن هناك الكثير من الأسانيد التي أفرزت مضامينها الخاصة بها، أي هناك الأسانيد التي صنعت متنها المتماهي مع روحها الإنحيازية والتبريرية، ولي وقفة قادمة مع هذا اللون من الأسانيد في حلقة قادمة إن كان هناك مجال.

يقولون : إن إعادة كتابة مشروع السيرة المطهرة يحتاج إلى مادة تاريخية نعمل عليها، وهذا من البديهيات بطبيعة الحال، ولكن بعض هؤلاء يريدون البقاء على هذه المادة كما هي، وجل ما يريدون العمل به هو تصنيف وتبويب وتقديم وتأخير، حيث أقروا ضمنا بأن هذه المادة يجب أن تبقى من حيث الجوهر بلا نقد وبلا تغيير، وبلا تحقيق! ومنهم من يرى أن نبقي حتى على المستويات الخرافية والخيالية في السيرة، بحجة أن ليس كل ما لا يستسيغة عقل ينبغي الخلاص منه، أو بحجة عدم ضرر ذلك ما دام ينطوي على نزعة من شانها التشجيع على الإلتزام، ومن شانها شحن العاطفة، ومن شانها شد المؤمن أكثر إلى النبوة الخاتمة، وربما أعود إلى هذه النقطة بالذات لإستجلائها بعون الله.

إن إعادة كتابة السيرة تعني في المقام الأ ول تهذيب مادتها كما جاءت في سيرة إبن اسحق ــ وهي الأم ـ وما جاء في المصا در الاخرى، تهذيب المادة التاريخية ونقدها وتصفيتها هي المدخل الحقيقي والعلمي والأخلاقي للتعامل مع مشروع إعادة كتابة السيرة، إن بعض الإسلاميين المهوسين بمشروع الإسلام السياسي يريدون سيرة برغماتية، أي سيرة تخدم مصالحهم السياسية والحركية، فيما الحقيقة تريد سيرة تستند إلى الحقيقة ذاتها، وهناك من يريد البقاء على هذه المادة، أي المادة الأولية بعيدا عن الممارسة النقدية عليها، لأن في ذلك مكاسب مادية ووجاهية، فإن هناك سوقا رائجة للخرافة والمبالغة والتهويل، وهناك سوق رائجة لأخبار الذبح والقتل والتدمير، وهؤلاء يتوسلون بهذه المادة لإرضاء هذه السوق الخطرة بغية جني المزيد من الكسب المادي والوجاهي القبيح.

هنا وبعد هذه المقدمة البسيطة أسجل بعضا من هذه الروايات، ألتي أعدها كارثة بحق الضمير الإنساني، بل كارثة بحق الرب الذي بعث محمدا رحمة للعالمين.

 

رواية (حرب المياه)!

تقول سيرة إبن اسحق أن أحد الصحابة وهو (الحُباب من المنذر الجموح) كان قد أقترح على الرسول خطة في حربه مع قريش، تلك الخطة أستطيع أن أسميها بـ (حرب المياه)، وفحوى الخطة ان (تميت خصمك المحارب عطشا)!

لقد كان اقتراح (الحُباب) هذا أن تردم كل مصادر المياه التي تفصل بين المسلمين وقريش، وكانا قد أقتربا من بعضهما، فيما يبني المسلمون حوضا خاصا بهم، وبذلك كما يقول الحباب للرسول الكريم (ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون)!

لقد قرانا ونقرأ أن من وصايا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحرب لأصحابه أن لا يقتلوا شيخا ولا عجوزا ولا طفلا ولا يحرقوا شجرا ولا يردموا بئرا، فكيف يلتئم هذا مع ذاك؟

هذه القسوة لا يمكن أن يتصف بها رسول الرحمة صلى الله عليه وآله وسلم، ولذا أني أشك في هذه الرواية وكل ما يترتب عليها أو يُبنى عليها حتى ولو كان السند صحيحا، فإن صحة السند كفكرة مشوبة بأكثر من مرتقب ومرتقب، ومن حمد الله تعالى أن سند الرواية ضعيف، فقد جاء كما يلي [ قال إبن أسحق : فَحُدِّثتُ عن رجال من بني سلمة، أنهم ذكروا : أن الحُباب بن المنذر الجموح.... (وساق الخبر) ]/ السيرة ص 366 / فالراوية منقطعة لمجهولية هؤلاء الرجال كما هو و اضح، ولكن الواقدي في مغازية يورده مرة مجردا ومرة موصولا بسند هو (حدثنا محمد قال : حدثنا الواقدي قال : فحدثني أبن أبي حبيبة،عن داود بن الحصين، عن عِكرمة، عن أبن عباس قال : نزل جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال : الرأي ما أشار به الحُباب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا حُباب : أشرت بالرأي! فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعل ذلك) / المصدر 1 / ص 54.الواقدي هنا كعادتة يزيد على رواية إبن اسحق، وهو ما يجعلني اشك أنه يختلق ما من شأنه أن يستقل به، كي يبين دوره في كتابة السيرة، فلم يشر إبن أسحق على مطابقة الوحي لأقتراح الحُباب، ذلك الأقتراح القاسي الجاهلي الظالم، فيما كحَّل الواقدي ذلك برضا الوحي! على أن سند الواقدي واه جدا، فقد حكم الرجالي المعروف إبن المديني على أن رواية داود بن الحصين أبو سليمان المدني عن عكرمة (منكر) / مغني الذهبي 1 / رقم 1978 / وقال أبو زرعة الرازي (ليّن)، وقال سفيان بن عيينة (كنا نتقي حديثه) / المصدر والرقم /. وفي عكرمة حديث طويل، ثم هذا (أبو حبيبة)الذي هو المصدر المباشر للواقدي في الرواية المذكورة، جاءت فيه طعون قوية (قال أبن معين : ليس بشي... وقال أبو حاتم : شيخ ليس بالقوي يكتب حديثه ولا يحتج به... وقال البخاري : منكر الحديث، وقال الدار قطني : متروك، وقال النسائي : ضعيف...) / تهذيب التهذيب 1 / رقم 180 / فضلا عن أن أصل الرواية مرسلة لأن إبن عباس لم يحضر المعركة، ولا ندري موقفه وطريقته بالرواية والنقل! فما الذي بقى بسند الواقدي هذا؟

وفي تصوري أن مثل هذا الاقتراح لا قيمة له لسبب بسيط، ذلك أن القوافل العربية كانت لا تبرح مكانها إلاّ وهي تحمل الكثير من المياه، خوفا من العطش المفاجئ، وجدب الصحراء، والضياع في دروبها غير المأمونة، فكيف والحال قافلة حرب؟ وفي طريق طويلة؟ ثم هل عدمت قريش قدرة حفر أبار في ذات الوقت وفي ذات المكان؟

 

هذه رواية خرافية سمجة.

تقول رواية إبن عباس (فلما نزل الناس أقبل نفر من قريش حتى وردوا حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم حكيم بن حزام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوهم. فما شرب منه رجل يومئذ إلا قُتل، إلا ما كان من حكيم بن حزام فأنه لم يُقتَل...) / ص 367 /.

ومهما كان رايي في سند إبن عباس الذي تشوبه الكثير من التساؤلات، فإن المتن لا يفيد أبدا أن هناك حرب مياه إذا صح التعبير، فالمسلمون الذين قتلوا هؤلاء القريشيين الذين وردوا حوض ـ إن صحّ الخبر ــ رسول الله لم يقتلوهم كي يمنعوهم من شرب الماء، بل جاء ذلك في سياق القتال لا أكثر ولا أقل، وشي غريب أن تسكت الرواية عن هؤلاء الذين قتلوا وقُتِلوا في حرب المياه هذه! خاصة وإن إبن اسحق كان قد عقد فصلا لقتلى المشركين بالأسماء، فهل من المعقول أن لا يشير إلى من قُتِل في حرب المياه هذه؟!

تقول رواية ابن اسحق عن إبن عباس (وقد خرج الأسود بن عبد الاسد المخزومي، وكان رجلا شرسا سيئ الخلق، فقال : أعاهد الله لأشربن من حوضهم، أو لأهدمنَّه،أو لأموتنَّ دونه، فلما خرج، خرج إليه حمزة بن عبد المطلب، فلما التقيا ضربه حمزة فأطنَّ قدمه بنصف ساقه، وهو دون الحوض، فوقع على ظهره تشخب رجله دما نحو أصحابه، ثم حبا إلى الحوض حتى أقتحم فيه، يريد أن يبر يمينه، وأتبعه حمزة فضربه حتى قتله في الحوض) / السيرة 1 / ص 369 /

فهذا الرجل كان في موقع التحدي وليس لأنه لا يملك ماء يشربه، فليس من المعقول أن قريش تتجهز بالسلاح والجمال والسيوف والدفوف والجزور والخمور ولم تتجهز بالماء، تلك خرافة، ولكن الرجل يريد أن يتحدى، وربما كان يريد أن يهدم الحوض كي يحرج المسلمين ، أقول ذلك إن صح هذا الجزء من رواية إبن عباس التي سبق أن وضعنا أكثر من علامة إستفهام عنها، على أن الرواية تنطوي على شي من (الفنتازية) إن صح التعبير، ذلك أن هذا الرجل السيئ الخلق، صمم أن يزحف ليلقي نفسه بالحوض كي يبر بيمنه!!!

لا يستبعد أن ا لحُباب بن المنذر قد اقترح على النبي الكريم هذا الأقتراح، فهو رجل حرب معروف، ويتسم بالقسوة والصلابة بل والفردية، فهو صاحب مشروع (منا أمير ومنكم أمير)، وهو الذي طالب الأنصار في مؤتمر السقيفة بأن يجلوا من نازعهم خلافة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من البلاد بحد السيف، مما دفع عمر أن يقول له (إذا يقتلك الله) فأجابه (بل إياك يقتل)، وكان قد شهر سيفه يقاتل داخل السقيفة كما يقولون، حتى سميت بأنها (فلتة كفلتات الجاهلية) / راجع الطبري 4 ص 40، 41، 42 /.

لا أستبعد أن رجلا مثل هذا يقترح حرب مياه على الخصم، ولكن هيهات أن يقبل ذلك نبي هو نبي الرحمة دعوة وواقعا.

 

شهادة مجانية!

جاء في سيرة إبن أسحق (وقال إبن إسحاق : وحدَّثني عاصم بن عمر بن قتادة : أن عوف بن الحارث، وهو إبن عفراء قال : يا رسول الله ما يُضحك الرب من عبده؟ قال : غَمْسَه يده في العدو حاسرا، فنزع درعاً كانت عليه، فقذفها، ثم أخذ سيفه فقاتل ا لقوم حتى قُتِل) / ا لمصدر ص 370 /

مرة أخرى نلتقي بما لا ينسجم مع عقل، ولا هو من بديهيات القرآن والإسلام، فأن من التعاليم المعروفة في هذا الدين الاستعداد للقتال بكل ما يمكن أن يؤتّى من قوة وألة، والقرأن شاهد صريح على ذلك، وبالتالي، من ا لمستحيل أن يصدر مثل هذ االتوجيه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهذا النوع من الجهاد أو القتال إنتحاري، ولا معنى له على الإطلاق، من المنطق والدين أن يقاتل المسلم في سبيل الحق والحرية و القيم الخيرة، وأن يتمنى من صميم روحه الشهادة على هذه الطريق الإنسانية الخيرة،ولكن من غير المنطقي أن يتهاون مع الحرب بحجة أن يظفر بهذه الشهادة.

هذه الروايات وغيرها تغذي شباب الأمة بفكر مسموم، فكر عدمي، فكر إنتحاري، فكر ظلامي، وقد تفنن رجال الدين أو بعض رجال الدين، وفقهاء الإ رهاب بالاستفادة من مثل هذه الروايات الباطلة القاتلة، لخلق جيل أو أجيال قاسية مع ذاتها، حاقدة على الغير، لا تعرف سوى لغة الحذف والقتل والتدمير.

الواقع : من حسن الحظ أن الرواية مرسلة، فأن مصدر إبن اسحق هو عاصم بن عمر بن قتادة، هو وإن وثقه علماء الرجال، ولكن الرجل مات سنة 120 للهجرة، وبالتالي، فروايته مرسلة.

 

النبي يهجو موتى عشيرته

تقول الرواية (قال إبن إسحق : وحدّثني بعض أهل العلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ـ يخاطب موتى قريش بعد أن وضعوا في بئر القليب ــ يا أهل القُليب، بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم،كذَّبتوني وصدَّفني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس، وقاتلتموني ونصرني الناس...) / المصدر ص 377 /

الرواية مرسلة، فهي ضعيفة، وهي لا تمت لأخلاق البنوة الكريمة.

اكتفي بهذا القدر، علي أن اتطرق لنماذج أخرى، ولكن في سياق كلامي المتبقي عن معركة بدر، والهدف البعيد هو تنزيه سيرة النبي الكريم مما دخلها من غث وزخرف وتهاويل وأكاذيب، ومن هو أحق بهذا الجهد دونه عليه الصلاة والسلام.

إن إعادة كتابة سيرة المصطفى تتطلب أول ما تتطلب هو تنقية هذه المادة، والله الموفق للصواب.

Ketab_1@hotmail.com

 

Link to comment
Share on other sites

  • 2 months later...

بؤس النص التاريخي (الإسلامي) في غزوة بني قينقاع!

GMT 15:45:00 2006 الجمعة 22 ديسمبر

غالب حسن الشابندر

 

 

 

--------------------------------------------------------------------------------

 

 

• نقض العهد (إشكالية محيرة)!

بنو قينقاع كما يقول صاحب السيرة الحلبية (بضم النون وقيل بكسرها وقيل بفتحها … أشهر قوم من اليهود وكانوا أشجع يهود، وكانوا صاغة، وكانوا حلفاء عبادة بن الصامت رضي الله عنه، وعبد الله بن أبي أُبي بن سلول، فلما كانت وقعة بدر، أظهروا البغي والحسد ونبذوا ا لعهد لانه صلى الله عليه وسلم كان قد عاهدهم وعاهد بني قريضة وبني النضير أن لا يحاربوه، وأن لا يظاهروا عليه عدوه، وقيل أن لا يكونوا معه ولا عليه، وقيل أ ن ينصروه صلى الله عليه وسلم على من دهمه من عدوِّه وأي كما تقدم، فهم أول من غدر من يهود) / المصدر 2 / ص 208.

نصادف فوضى روائية مؤذية ومزعجة في تحديد المادة أو البند الذي نبذه اليهود فاستحقوا موقف الرسول الجديد منهم ـ وهو موقف في غاية الغموض والإبهام كما سنبين قرييا ــ. فالنص السابق يشير فقط إلى حصول نبذ، ولكن تغيب هوية هذا النبذ!

تطالعنا صور متعددة لهذا النبذ، في سياقات خبرية مضطربة، تحول حقا دون تكوين رأي تاريخي جيد في صدد هذه (الغزوة) في أكثر من نقطة..

رواية ابن اسحق

في سيرة إبن اسحق نلتقي براوية مقتضبة ولكن فيما بعد يفصل فيها إلى حد ما، فهو يثبت في البداية نقض العهد براوية عاصم بن عمر بن قتادة (وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة: إن بني قينقاع كانوا أوّل يهود نقضوا ما بينهم وبين رسول الله، وحاربوا فيما بين بدر وأحد) / السيرة ص 32 /

هذه الرواية المقتضبة يفصلها نوعاً ما برواية عبد الله بن المسوِّر بن مخرمة، عن أبي عون، حيث جاء فيها (قال إبن هشام: وذكر عبد الله بن جعفر بن المسور بن مخرمة، عن أبي عون، قال: كان من أمر بني قينقاع أن إمرأة من العرب قدمت بجلب لها، فباعته بسوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ بها، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها، فأبت، فعمد الصائغ إلى طرْف ثوبها فعقده إلى ظهرها، فلما قامت إنكشفت سوْأتها، فضحكوا بها، فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، وكان يهوديا، وشدّت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فغضب المسلمون، فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع)/ المصدر ص 32 /

فحسب هاتين الروايتين نفهم أن هؤلاء اليهود بغوا على إمرأة مسلمة، فدفع عنها مسلم، فقتلوه، اي اليهود مما دعا أهل المسلم للإستغاثة بالمسلمين، فأدى ذلك إلى قيام حرب بين يهود بني قينقاع والمسلمين، كما تنص الرواية، فاليهود هم أساس المشكلة هنا، هم الذين بدأوا بشكل وآخر.

هل نستلم لهذه الرواية؟

أولا: إن هذه الرواية تتعارض مع رواية أخرى يذكرها الواقدي في مغازية نقلا عن عروة بن الزبير، وهو أقرب لمزاج علماء رجال أهل السنة من أبي عون، وعاصم بن عمر بن قتادة، وسوف نأتي على شي من التفصيل في هذه النقطة لاحقا.

 

ثانيا: إن الطبري لم يأت على ذكر قصة هذه المرأة، كذلك الواقدي، مما يعني أن بعض المؤرخين وكتاب السيرة يشككون في صحتها.

ثالثا: إن الرواية أصلا مرسلة، فإن عاصم بن عمر بن قتادة وإن كان ثقة عند رجال السنة ولكن الرجل توفي سنة 120 للهجرة أو سنة 119، فهو متأخر كثيرا عن زمن النص، ولا ندري عمّن روى، كما أن أبا عون الذي هو: محمّد بن عبيد بن سعيد أبو عون وإن كان ثقة ولكن الرجل توفي سنة 116 للهجرة، فروايته مرسلة، وبذلك تكون الرواية بمجملها مرسلة، وبتفصيلها الشارح والمبين لهذا الإجمال هي الأخرى مرسلة!.

رابعا: ومن الغريب أن الرواية تشير أن حربا نشبت بين يهود بني قينقاع والمسلمين، ولكن يبدو هذه الحرب يتيمة، فلا خبر عن قتل، ولا خبر عن بطل، ولا خبر عن أسر، ولا خبر عن سيف أو فرس، مع العلم أن الروايا ت تصف يهود بني قينقاع بانهم أشجع الناس، وهم أهل حرب!

أن مراجعة بسيطة لهذه الملا حظات لا تدعنا نستسلم لهذه الراوية، بصيغتها المجملة، وصيغتها المفصَّلة.

 

 

رواية القُرَظي

نلتقي بخلط عجيب في رواية محمد إبن كعب القرظي وهو يحدثنا عن مادة النبذ التي بموجبها تغير موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهود بني قينقاع ــ وهو موقف غامض مبهم مجهول كما سنرى ــ أي من التسالم إلى الحرب كما يقولون. ولاجل تنظيم المادة بشكل مريح، سأضطر إلى ترقيم صور النقض المفترضة كما جاء في تضاعيف الرواية.

الصورة الأولى:

جاء في صدر الرواية (... عن أبي كعب القرظي، قال: لمّا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وادعْـته يهود كلها، وكتب بينهم وبينها كتابا. وألحق رسول الله صلى الله عليه وسلم كل قوم بحلفائهم، وجعل بينه وبينهم أمانا، وشرط عليهم شروطا، فكان فيما شرط ألاّ يظاهروا عليه عدوا. فلما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحاب بدر، وقدم المدينة، بغت يهود، وقطعت ما كان بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من العهد). فهنا تذكر الرواية أن يهود بني قينقاع بغت، الأمر الذي يعني إنها خرمت العهد، أو خرمت مادة من مواد العهد، وكل مادة من مواده ملزمة على حدة. والبغي هنا يعني الإعتداء، ولكن أين هو المُعتدَى عليه؟ وكيف حصل؟ الرواية تسكت عن ذلك،. ويلحق (القرظي) بهذه القطعة مباشرة معالجة قام بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذا البغي فيقول (فارسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فجمعهم، ثم قال: يا معشر يهود، أسلموا، فوالله إنَّكم لتعلمون أنَّي رسول الله، قبل أن يوقع الله بكم مثل وقعة قريش، فقالوا: يا محمّد لا يغرنك من لقيت، إنَّك قهرت قوما أغمارا، إنَّا والله أصحاب الحرب، ولئن قاتلتنا لتعلمَّن أنَّك لم تُقاتل مثلنا) ص 176. جاء هذا التعقيب مباشرة بعد ذكر نبذ اليهود العهد، وقطعها ما كان بينها وبين محمد صلى الله عليه وسلم، مما يعني أن القطعة هذه ملحقة بتلك الحكاية، أي معالجة لهذا النبذ، ومفاد العلاج هنا،، هو دعوة اليهود للدخول في الإسلام. ومن الغريب أن هذا النص اللا حق، جاء على ذكره أيضا إبن هشام في السيرة مستفتحا حديثه عن الغزوة، فيما أخَّره (القرظي) بعد الإشارة إلى نبذ يهود بني قينقاع العهد، فطريقة سوق القرظي للرواية غير طريقة سوق إبن هشام (القرظي)، سياق إبن هشام كان إفتتاحيا، أفتتح به الحديث، كان منذ اللحظة الاولى دعوة. فيما سياق (القرظي) جاء بعد الإشارة إلى نبذ العهد، مما يدل على أن سياقه كان علاجيا، علاجا لهذا النبذ، فإن النص ليس معنى وحسب، بل منازل ومواقع.

 

الصورة الثانية:

يقول (القرظي) في روايته مباشرة بعد تلك المعالجة (فبينا هم على ما هم عليه من إظهار العداوة ونبذ العهد، جاءت إمرأة نزيعة، من العرب تحت رجل من الأنصار إلى سوق بني قينقاع، فجلست عند صائع في حلي لها، فجاء رجل من يهود قينقاع، فجلس من ورائها و لا تشعر، فخل درعها إلى ظهرها بشوكة، فلمّأ قامت المرآة بدت عورتها فضحكوا منها، فقام إليه رجل من المسلمين فاتّبعه فقتله، فاجتمعت بنو قينقاع، وتحايشوا فقتلوا الرجل، ونبذوا العهد إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحاربوا، وتحصَّنوا في حصنهم، فسار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاصرهم، فكانوا أوَّل من سار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجلى يهود قينقاع، وكانوا أوّل يهود حاربت) / المصدر ص 177 /

ولنا ملاحظتان أوليتان على هذين المقطعين (الوسط والعجز) من أصل الرواية، أي رواية محمّد بن أبي كعب القرظي.،

 

الأولى: إنَّ هذين المقطعين يؤكدان أن نبذ يهود بني قينقاع لما بينهم وبين النبي الكريم لم يبدا مع حادثة هذه المرأة، بل كان قبل ذلك (... فبينا هم على ما هم عليه من إظهار العدواة ونبذ العهد، جاءت أمرآة نزيعة.، من العرب...).

الثانية: إن نص القرظي مشبع بالتأكيد على نبذ بني قينقاع لما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأن هناك شيء في داخله يحثه على إشباع هذه الناحية وإثباتها، فهل هي من أواليات الدفاع عن الذات بسبب إنتماء يهودي سابق؟

وفي ضوء كل ما سبق، أي في ضوء المقطع الاول والثاني والثالث، نستفيد أن يهود بني قينقاع كانوا قد نقضوا العهد، ثم جاء حادث المرأة المسلمة، ثم جاء بعد ذلك حادث مهم، فإن رجلا مسلما قد إنتصف لهذه المرآة بقتل ذلك اليهودي، ثم ما كان من اليهود إلا قتل الرجل المسلم، فتنادى المسلمون، وتقابل الجمعان، فكانت تلك المعركة، وعلى أثرها حاصرهم رسول الله وأجلاهم (فكانوا أوّل من سار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجلى يهود بني قينقاع، وكانوا أوّل يهود حاربت).

هل يمكن الإطمئنان إلى هذه الرواية؟

نلاحظ عليها ما يلي: ــ

أوَّلا: إن أصل الرواية مرسلة، فإن محمد بن أبي كعب القرظي لم يكن حاضرا الواقعة المذكورة.

ثاينا: معارضة برواية عروة بن الزبير التي تنفي أن يكون هناك قتال قد حصل بين نبي الله ويهود بني قينقاع.

ثالثا: الغموض الذي يلف هذه الحرب المزعومة، فهي على كل حال حرب، ومن غير المعقول أن تمر هكذا، بردا وسلاما، أمر من الصعب الإرتكان إلى صحته. لم نقرا شعرا، ولا بطلا، ولا حوارا، فهل ذلك من طبائع الحروب؟ ترى هل هي حرب خاطفة؟

رابعا: وبودي أن أسأل، هل تصرف ذالك اليهودي بحق تلك المرآة المسلمة نقضا للعهد؟ وهل قتل المسلم لذلك اليهودي شرعيا؟ أي هناك مبرر شرعي نصت عليه شريعة القرآن أنذاك؟ وكيف لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يستجيب لنداء أهل هذا الرجل من دون أن يتحقق من سير الأمور، فلعل هناك غشا، أو وهما أو مفارقات تمنع من شن الحرب على أهل عهد.

من هذا وذاك لا يمكننا أن نركن بسلام إلى رواية محمد بن أبي كعب القرظي،

رواية عروة بن الزبير

رواية عروة في هذه القضية طويلة ومضطربة، فضلا عن كونها مرسلة كسابقتها بطبيعة الحال.نحاول هنا وبشي من الصبر تتبع بعض موادها فيما يخص موضوع النبذ، ونؤجل الحديث عن بقية المواد فيما يخص قضايا اخرى لها علاقة بالغزوة.

المشهد الاول

يستهل عروة حديثه بالقول بعد حذف السند:

[...لمَّا نزلت الآية (وإمّأ تخافَنَّ من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين) فسار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الآية، قالوا: فحصرهم في حصنهم خمس عشرة ليلة أ شد الحصار حتى قذف الله في قلوبهم الرعب...) / الواقدي ص 177 / وتستمر الرواية حتى إستسلامهم عن طوع وصغر كما تلوح الرواية.

هذا (ا لمشهد) من الرواية يشذ عن الروايات السابقة تماما، فإن يهود بني قينقاع لم ينبذوا عهدا، ولم يتحارشوا أمرآة مسلمة، ولم يقع قتال، بل إن النبي سارع وأعلم اليهود بفسخه العهد كما يفهم عروة من الآية، وحاصرهم وإنتهى الامر باستسلامهم!

لا أريد مناقشة هذا المشهد، بل أؤجل ذلك لوقته المناسب، إن شاء الله تعالى، ولكن فقط أريد أن أسجل معالم المشهد ونتيجته.

المشهد الثاني

يقول عروة (ولقد كانوا ــ بني قينقاع ـ أشجع يهود، وقد كان أبن أُبي أمرهم أن يتحصنوا، وزعم أنَّه سيدخل معهم، فخذلهم ولم يدخل معهم، ولزموا حصنهم فما رموا بسهم، ولا قاتلوا حتى نزلوا على صلح رسول الله صلى الله عليه وسلم وحكمه...) / المصدر ص 178 /

في هذا المشهد من رواية عروة نفهم أن يهود بني قينقاع لم يقاتلوا، وقد نزلوا على رأي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سلما.

ولنا على الرواية الملاحظات التالية: ــ

أوَّلا: إن الرواية مرسلة أصلا، بل وهي محل شك لان الواقدي ينفرد بها، والواقدي متهوم لدى علماء علم الرجال السني. وإن كنت غير ملزم بهذا الإتهام، ولكن أتعامل حسب مقاسات علم الرجال الذي هو حجة على الآخر.

ثانيا: إنها معارَضَة برواية إبن إسحق ورواية محمّد بن أبي كعب.

 

ثالثا: أن مفا د الآية الكريمة كما يقول المفسرون أن الله اخبر نبيه بانه إذا كان يتوجس خيفة من ذي عهد، عليه أن يخبرهم بذلك، ويكون في حل من العهد نفسه، ولكن لا يجوز له ان يبدأهم بقتال، أو حصار، أو تهجير أو أي موقف على هذا الغرار، فإن الله لا يحب الخائنين، هذا ما جاء في الطبرسي والرزاي والزمخشري، وبالتالي، بأي حق يعلمهم الرسول بتوجسه ونبذه العهد على أساس هذا التوجس، ثم يحاصرهم ويأسرهم، ويطردهم من المدينة؟

من كل هذه الملاحظات من الصعب الإرتكان إلى هذه الرواية.

 

 

رواية الطبري

يستند الطبري إلى رواية إبن هشام ولكنه لم يذكر قصة المرأة المسلمة التي تحرش بها يهود بني قينقاع، بل يكتفي بالإشارة إلى أن بني قينقاع كانوا أول يهود نقضوا العهد، وحاربوا بين بدر و أحد، ثم يعرج على رواية عروة فيقتطع منها المشهد الاول، وبعد ذلك ينقل رواية عن الواقدي بقوله: [ قال الواقدي: وحدثني محمد بن صالح،عن عاصم بن عمر بن قتادة قال: حاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة، لا يطلع منهم أحد، ثم نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكتفوا (وهو يريد قتلهم)، فكلمه فيهم عبد الله بن أبي) / الطبري 3 ص 85 /

الغريب أن مثل هذه الرواية غير موجودة في مغازي الواقدي، في حقل غزوة بني قينقاع! ولم أعثر عليها في كتاب الطبقات لابن سعد في خصوص هذه الجملة (وهو يريد قتلهم)!

هذه هي أهم المصادر التي تتحدث عن نقض العهد في قضية بني قينقاع، أو غزوة بني قينقاع، والذي يحير اللب أنها متناقضة، ومتضاربة، وليس هناك صورة واضحة يمكن الإطمئنان إليها فشتان بين صورة وأخرى، شتان بين القتال والسلم، ولا ندري أي صورة هي الحقيقة.

إن نصوص الغزوة هذه، فيما عرضناه سابقا، عبارة عن نصوص يتيمة، أي غير منتجة، نحن بين يدي فقر، جدب، غموض، وهي نصوص تعبر عن إخفاق النص التاريخي الذي يتصل بالسيرة النبوية في هذه القضية الخطيرة، وبالتالي، كيف يتسنى لنا أن نؤسس تاريخا، ونشيد معرفة تاريخية، يمكن أن تتحول إلى مصدر إلهام وتغيير وبناء؟

لم نكن بين يدي نصوص، بل حكا يات كانت يبدو شائعة في زمن هؤلاء الروا ة، اختلط فيها الغث والسمين، الصحيح والزائف، الحقيقة و المبالغة، ولم قادرين على التمييز، فابتلينا بتاريخ أسود، صار مر تعا للعنف و القتل وا لموت والقهر.

 

• حكم النبي في يهود بني قينقاع

نحاول الآن الإحاطة بحكم النبي الكريم بيهود بني قينقاع بعد أن تمكن منهم حربا أو سلما، مستندين في ذلك على النصوص الواردة، وهي نصوص تفيد الحكم المذكور بصورة غير مباشرة، فلم توجد هناك نصوص مباشرة في هذه القضية بالذات.

الصورة الأولى

نقرا في الطبري (قال الواقدي: وحدثني محمد بن صالح، عن عاصم بن عمر بن قتادة، قال: حاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشر ليلة، لا يطلع عليهم أحد، ثم نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكتفوا وهو يريد قتلهم، فكلمه فيهم عبد بن أبي)، وسبق ان قلت إن مثل هذه الروية غير موجودة أصلا في الواقدي، أي في فصل كلامه عن الغزوة المذكورة. ثم كيف يحكم بقتلهم، وهم أسرى طبق الرواية التي تقول أنهم قاتلوا؟ والسؤال أولى لو أنهم نزلوا عند حكمه صلى الله عليه وآله صلحا كما في رواية عروة بن الزبير.

الصورة الثانية

نقرا في ابن هشام (وحدَّثني عاصم بن عمر بن قتادة، قال: فحاصرهم رسول لله صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على حكمه، فقام إليه عبد الله بن أُبي بن سلول،حين أمكنه الله منهم، فقال: يا محمد، أحْسن إلى مواليِّ، وكانوا حلفاء الخزرج، قال: فابطأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد أحسن في مواليّ، قال: فأعرض عنه، فأدخل يده في جيب رسول الله صلى الله عليه وسلم... فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرْسلني، وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأوا لوجهه ظُللا، ثم قال: ويحك! أرْسلني، قال: لا والله لا أرْسلك حتى تحسن في مواليِّ، أربع مائة حاسر، وثلاث مائة دارع، قد منعوني من الأحمر والأسود، تحصدهم في غداة واحدة، أني والله أ خاف أن تدور علي الدوائر، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هم لك) / المصدر ص 32 /

ويرويها ابن اسحق أيضا عن أبيه، إسحق بن يسار،عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، ويرويها الواقدي عن الزهري، عن عروة، وهي الرواية التي ناقشنا بعض محتوياتها قبلا.

فإن هذا النص يفيد ضمنا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حكم على يهود بني قينقاع بالقتل، وذلك من قول بن سلول (تحصدهم في غداة واحدة)!

ولي الملاحظات التالية على ذلك: ــ

أولا: إن حكم القتل لم يكن ظاهرا في النص على لسان النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، بل جاء على لسان المنافق عبد الله بن أبي بن سلول (تحصدهم في غداة واحدة). فهذه كلمة هذا الرجل، وليست هي كلمن الرسول العزيز، ومن يدَّعي أن كلمة عبد الله بن أبي بن سلول جاءت طبقا لمراد النبي أنذاك؟

ثانيا: أن حكم القتل هذا يتناقض مع شريعة القرآن في حكم الأسير، فالأسير لا يقتل، هذا فيما إذا كان هناك قتال حقا، أما إذا لم يكن هناك قتال، بل أن الناس نزلوا على حكم النبي صلى الله عليه وسلم صلحا، فالإشكال أقوى وأمضى! وتلك هي رواية عروة (... نزلوا على صُلح رسول الله صلى الله عليه وسلم وحُكمه، وأ موالهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم...)، فما هو الموجب للقتل؟!

لم نعرف بصورة واضحة حكم نبي الله صلى الله عليه وسلم بهؤلاء الناس، الروايات غامضة ومرتبكة، وبعد ذلك متناقضة أحينا فيما بينها، كما أنها قد تصطدم ببعض الاحكام الشرعية.

مرة أخرى نلتقي ببؤس تاريخي، بنص تاريخي منهك، لا قابلية له على تاسيس رؤية أو موقف، فكيف يجوز لنا إعتماد مثل هذه النصوص لتأسيس سيرة تربوية نبوية؟

• نقد قصة ابن سلول:

لعبد الله بن أبي أُبي قصة في غزوة بني قينقاع، وقد تراوح بيان هذه القصة بين الإجمال والتفصيل في الروايات، نريد هنا تسليط الضوء على هذه الروايات بإسلوب نقدي.

يتعرض إبن إسحاق لهذه القصة مقتضبا، فهو يقول (قال إبن إسحق: وحدّثني عاصم بن عمر بن قتادة، قال: فحاصرهم رسول الله صلىالله عليه وسلم حتى نزلوا حكمه، فقام إليه عبد الله بن أبي سلول، حين أمكنهالله منهم، فقال: يا محمّد أحسن في مواليِّ، وكانوا حلفاء الخزرج، قال: فأبطأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمّد أحسن في مواليِّ، قال: فاعرض عنه، فا دخل يده في جيب درع رسول الله صلى الله عليه وسلم... فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إرسلني، وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حت رأوا وجهه ظُللا، ثم قال: ويحك إرسلني، قال: لا والله لا أرسلك حتى تُحسن في مواليّ، أ ربع مائة حاسر، وثلاث ما ئة دارع، قد منعوني من الاحمر والأسود، تحصدهم في غداة واحدة، إنّي والله أخشى الدوائر، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وهم لك) / المصدر ص 33 /

بصرف النظر عن مفارقات السند، فإن البديهة تنادي هنا وبكل بساطة، ترى أين كان المسلمون من هذه الغلظة التي أبداها ابن سلول مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أين كان عمر وعلي وعبادة بن الصامت وغيرهم من المؤمنين؟ لقد أساء الأ دب أكثر من واحد من الصحابة أو المشركين بحق النبي العزيز، ولكن تصدى لذلك الصحابي الجليل عمر بن الخطاب لهؤلاء المسيئين، ومنعه النبي، وقد تكررت مثل هذه الظاهرة مرا ت، فهل عقمت شجاعة هؤلاء مع إبن سلول؟

الغريب حقا أن يستجيب رسول الله لإبن سلول في هذا العدد الكبير من يهود بني قينقاع، حاسرين ودارعين، كان حقه القتل كما هو المفترض حسب مطيات هذه الرواية البائسة المتهاوية، فمن هو هذا ابن سلول كي يتنازل رسول الله لإلحاحه، وطلبه، فيحضى بسبب هذا الألحاح وبسبب هذه الطلب مئات بحق الحياة الذين كان نبي الله قد قرر إمضائه هدرا ومحوا؟

ثم لا ننسى، أن حكم القتل بهؤلاء لا تجيزه شريعة محمد نفسه، فكيف وهذه الحال تستقيم هذه الحكاية المزعومة؟ كيف نوفق بين هذه الحكاية وكون القوم قد نزلوا عند حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم صلحا على رواية عروة الذي تورط نفسه بهذه الحكاية؟ وليس من المعقول أن ينزلوا عند حكمه صلحا، وحكمه كان القتل؟ فذالك من التناقض المنطقي الوا ضح، ومن هراءات الخرا فة وليس من حكمة العقل.

لنتفرض أن أصل الحكاية صحيح، ولكن أليس من المقعول أن يُستثنى منهم من يستحق الإستثناء؟ أم هي خبط عشواء ومزاجات تروح وتأتي بين رغبة منافق وقرار نبي؟

خرافة ما بعدها خرافة، ولكن يا للاسف، تحولت الخرافة إلى حقيقة في نفوس الكثيرين، فتحولت تلك النفوس إلى مرتع شر، وإن كان بعضها بريئ بسبب جهله، أو بسبب تجهيله.

يروى إن قوله تعالى (فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون: نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى ا لله أن يأ تي بالفتح أو أ مر من عنده فتصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين)، ولكن أبن كثير في تفسيره يشير إلى تضعيف نزول هذه الأية في موضوع أبن أبي هذا / فقه السيرة هامش ص 242، و الإشارة من الألبناني /.

يهود بني قينقاع إلى الشام!

 

 

وما هو مصير يهود بني قينقاع؟

تجيب الروايات بما يلي (حدثني محمد بن قاسم، عن أبيه، عن الربيع بن سبرة، عن أبيه، قال: أني... مقبل من الشا م، إذ لقيت بني قينقاع يحملون الذرية وا لنساء، قد حملوهم على الأبل وهم يمشون، فسألتهم فقالوا: أجلانا محمد وأخذ أموالنا، قلت: فأين تريدون؟ قالوا: الشام.قال سبرة: فلمّأ نزلوا القرى أقاموا شهرا، وحملت يهود وادي القرى من كان راجلا منهم، وقووهم، وساروا إلى أ ذرعات فكانوا بها، فما كان أ قل بقاءهم) / الواقدي ص 180 / ويتفق إبن سبرة مع عروة بأن مصير يهود بني قينقاع كان أن سلكوا إلى الشام، حتى أذرعات.

يشير المحدث الكبير محمد ناصر الألباني، وهو من أكبر علماء السنة المعاصرين في الرواية، يشير بتعليقة سريعة على كل روا يات غزوة بني قينقاع، وذلك في كتاب (فقه السيرة) للشيخ محمد الغزالي، وذلك لما ختم الغزالي حديثه عن الغزوة بإجلاء بني قينقاع وسلوكهم الطريق إلى الشا م، يشير بقوله [ رواه ابن إسحق 2/ 121 عن عبادة بن الوليد بن الصامت، وابن جرير عن عطية العوفي وعن الزهري (وكلها مرسلات)... ] / فقه السيرة ص 243 /.

وكان الأولى به أن يضيف وروايات متضاربات، وربما بعضها يخالف شرع الله.

فإذن هناك بؤس تاريخي في نص رواة السيرة النبوية في هذه الوقعة المزعومة، أن كل ما يمكن أن نطمئن إليه من جماع هذه الروايات الغثة الهالكة، أن اليهود، يهود بني قينقاع قد أُجلوا من المدينة، ولم يحصل فيهم قتل، ولم تكن هناك حرب، فأين هو مفهوم الغزوة هنا؟

يقول الواقدي (... وقد سمعنا في إجلائهم حيث نقضوا العهد غير حديث إبن كعب) / المصدر ص 180.

أن خاتمة الحديث عن غزوة بني قينقاع، أن لا تاريخ حقا.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

Link to comment
Share on other sites

Join the conversation

You can post now and register later. If you have an account, sign in now to post with your account.

Guest
Reply to this topic...

×   Pasted as rich text.   Paste as plain text instead

  Only 75 emoji are allowed.

×   Your link has been automatically embedded.   Display as a link instead

×   Your previous content has been restored.   Clear editor

×   You cannot paste images directly. Upload or insert images from URL.

Loading...
×
×
  • Create New...