Jump to content
Baghdadee بغدادي

دستور الاسلام المستنير (20): الله والانسان


Recommended Posts

http://www.elaph.com/ElaphWeb/ElaphWriter/2007/3/215845.htm

 

 

دستور الاسلام المستنير (20): الله والانسان (أ)

GMT 4:00:00 2007 السبت 3 مارس

المستشار محمد سعيد العشماوي

 

 

 

--------------------------------------------------------------------------------

 

 

جاء في صحف إدريس عليه السلام (التى ترجمناها عن الانجليزية ونشرناها مع تعليقات لنا في مجلة مصرية) أن الله خلق الانسان ليخلق به. وإدريس هذا هو الذي قال عنه القفطى (وغيره) في كتابه "إخبار العُلماء بأخبار الحكماء" إنه عاش في مصر، وهو ما يوافق ما جاء في كتاب المؤرخ اليوناني بلوتارك (46 – 120) بالالمانية Isis et lside (اي إيزيس وأوزوريس). وقد جاء في هذا الكتاب أن أصل أسم أوزير (إدريس) هو يسر، وهي كلمة غير محددة المعني، لكنها يمكن أن تترجم إلى قوة أو قدرة أو عزم. وقد عاش أوزير في مصر في عصور موغلة في القدم (10500 من الوقت الحالى) وكانت له وللحضارة المصرية صلة بكوكبة الجبار ( Orion Constellation ) لم يُكشف عنها النقاب بعد، وهو الذي علّم الناس الزراعة والصناعة والكتابة والفلك والموسيقي والختان، وغير ذلك، مما جعله مُعلّم البشرية ومرشد الانسانية، الذي يتجسد بين الناس من حين إلى آخر، ليعمل على إزالة الخرافات الحارة والتراكمات الضارة، ويقدم المعاني الحقيقية للخلاص والفداء والجذب الكوني والوصل الروحي، وطبيعة عمل الانسان.

إلى جانب ما قدمه أوزير (إدريس) للبشرية، فقد عرّفهم بالله الواحد الأحد، والمركز الكوني لكل شيء، والنبع الدافق لكل حياة، والوصل الدائم لكل العلاقات والمخلوقات. وقدم الشريعة في لفظ واحد هو "ماعت" الذي يعني الحق والعدل والاستقامة والنظام، فكان على كل فرد أن يؤمن بالله، وينجذب إليه (بالجذب الصوفي) ويتواصل معه (بالوصل الواعي)، ومنه وعنه يضع في قلبه الحق والعدل والاستقامة والنظام، ثم ينشرها فعلا وقولا إلى الناس جميعاً.

وكانت لأوزير اسماء متعددة حسب اللهجات المختلفة والمناطق المتعددة. وقد نطق اليونان اسمه أوذريس، بإضافة الياء والسين، كعادة أجروميتهم للتنوين، ثم صّحف للعرب لفظ أوذريس ليصبح إدريس، وهو تصحيف عادى لفروق النطق. وقد ورد اسم ادريس في القرآن مرتين (واذكر في الكتاب ادريس انه كان صّديقا نبيا، ورفعنا مكانا عليا) سورة مريم 56 : 59 (وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كلا جعلنا من الصابرين) سورة الانبياء 21: 85، ويخلط البعض إدريس بأخنوخ، لورود اسم أخنوخ في ثبت اسماء أولاد آدم في التوراة، ولكى يجعلوا له صلة بأنبياء التوارة، لكن الواقع أن أدريس (أوزير) ليس هو أخنوخ، وأنه يسبق عصر هذا بكثير، فهو مصري وُجد وعاش – على الراجح – 85000 عاماً قبل الميلاد، أى 10500 عاما من وقتنا الحالى.

وقد سادت عقيدة إدريس، البسيطة والنقية، وتخللت كل عقيدة تلتها، ففي القرآن (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة) سورة فصلت 30 وفي التوراة ورد (إهدني في سبيل مستقيم) مزامر 37: 11.

هكذا، حَيَتْ مصر حكاما ومحكومين تؤمن بالله الذي ليس كمثله شيء، وتعتنق الحق والعدل والاستقامة والنظام، شعبا راقيا ساميا وديعا. ولم يكن الحكم آنذاك حكم الفرعون، فأصل اسم فرعون في المصرية القديمة (برعو) أى البيت العالى، ثم صحفه العبرانيون إلى فرعون، ومنهم انتقل إلى العرب، ليفيد معني التعالى والتجبّر والغطرسة. لكن الحقيقة أن الحاكم (الفرعون) وعماله وكهانه كانوا يلتزمون حكم الشعب وفقاً لمبدأ ماعت، الذي هو الحق والعدل والاستقامة والنظام. وفي متون الاهرام، وفي هرم اوناس، من الاسرة الخامسة، يقول فيها عند محاكمته السماوية بعد الموت، إنه كان يحكم طبقا لنظام ماعت، الحق والعدل والاستقامة والنظام (الكونى)، فلم يحد عنها قط.

وظل الحال كذلك حتى نهاية الأسرة الخامسة، حين انتهز البدو المقيمين في البلاد الصحراوية شرق مصر، ما بها من وفرة وثروة ونماء وإزدهار وسماحة، وظلوا يهاجرون إليها زرافات زرافات، حتي كوّنوا في مصر جاليات كثيرة، فرضت مسالكها وتصرفاتها. ولما كان السلوك اجتماعياً، فقد حدث أن اضطر المصريون، للحفاظ على أنفسهم، إلى الهبوط إلى مستوياتهم في التصرف والتعامل، وفي القول والفعل، حتي انتهي الامر بسقوط نظام ماعت، فسقطت الاسرة الخامسة، وبدأ بالاسرة السادسة عهد الاقطاع، ويقول الامريكي عالم الاثاريات المصري جيمس هنري برستيد: إن سقوط نظام ماعت كان أكبر كارثة حلت بالانسانية.

ذلك إنه بدلا من الينبوع الأخلاقي الذي يكمن في القلب (أو الضمير) ويتجلي في الأقوال والأفعال ويحاسب عليها المرء بعد موته، فقد تغير ذلك تماما، وانقلبت الدوائر على نفسها وانكفأت الأمور على عقبيها، إذ انقطعت الروابط الالهية وانقضت العلاقات الكونية وانبتت التواصلات الانسانية، فاختلت الموازين واعتلت المعايير واضطربت المقاييس، وصار كل شيء إلى عكسه وكل مبدأ إلى ضده، الوحدة شتاتاً، والقبضة نثاراً، والحب كرها، والوداعة عنفاً، والبصيرة عماء، والتضامن تنافراً، والتكامل نقصانا، والسلام قتالا، والصفاء عكارة، والجماعة أفرادا، والروحية مادية، والتجريد تجسيداً، والألوهية وثنية. ومنذ هذا الوقت، وحتي وقتنا الحالى، ساد الظاهر والمجسّد والبراني والمشهود والمنظور.. إلى ما ماثل، واختفي أو غام أو تحور أو تحول، الباطن والخفى والمعني والجوّاني والغيبي.. وما هو في هذا السبيل.

لقد انقطع الخيط الماسي والرباط الروحي بين الارض والكون، بين الانسان والله، فصارت البشرية، كل فرد فيها إلا النادر منهم، إلى وهاد الضياع بدلا من ثبات اليقين، وإلى الظلام الدامس عوضاً عن النور الساطع، وإلى فارغ القول بدلا من واضح الفعل.

لم كان ذلك؟ وما سبب هذا التحول الخطير؟ ربما يقتضي السياق بيانا وجيزا لكنه كافيا، في هذا الصدد.

ففي مصر القديمة – كما انف البيان في دراسة سابقة – كان المصريون على مدى تاريخهم يعبدون الله الواحد الأحد ( neter uno )، ومع أن مصر فصلت عنها أغلب آثارها، فلم يظهر أبدا تمثال لله الواحد الأحد، الذي لم يكن يماثله خلق، وكان خفياً ولفظ آمون يفيد معني الخفى، وقد خلق الله الكون بالكلمة، وهى الحكمة وهي الابداع (على نحو ما يقول القرآن: كن فيكون).. وكانت ماعت هي الرفيق أو المتناغم ( Consort ) للكلمة – والمتناغم هي من لفظ التناغم أو التوافق ( Harmony ). فكان المصريون القدماء يعبدون الله، ويبجلون الكلمة، ويطوون قلوبهم على تلك العبادة وذاك التبجيل، بما يتجلي في تطبيق ماعت، أى الحق والعدل والاستقامة والنظام، في كل فعل وأى قول. ولم يكونوا يعرفون خيراً، بل شخصاً خيّراً، كان أوزير (إدريس) رمزا له؛ كما كانوا لا يعرفون شراً، بل كانوا يرون الشرير ورمزه ست، أخ أوزير الذي غار منه وقتله.. ولكى يكون الشخص خيّراً عليه أن يتمثل بأوزير في كل حياته، وإن لم يفعل ذلك كان متمثلا بست رمز الشر والخيانة والعدوان. ولفظ ست هذا هو الذي نطقه العبرانيون، ثم بنو إسرائيل، "سيطان"، وصار في العربية "شيطان" وفي الانجليزية ( Satan ). وهكذا، ولم يكن لديهم لفظ يعبّر عن الدين، إذ كان الدين عندهم أسلوب حياة، يكون فيها الخيّر متمثلاً بأوزير، ويكون الشرير متمثلاً بست. بهذا لم يكن لديهم ألفاظاً منبتّة عن الواقع المتحقق، وكانوا يرون أن لغتهم مقدسة، إذ كانت على قدّ العمل، ولم تكن قد انفصلت عن الواقع المتحقق والوجود الحى لتصبح كيانا خاصا ً بذاته، وبمفرداته، يسير ويدور ويثور ويفور بلا غرض إلا مجرد الحديث، والتأويل والتعليل والتفسير والتبرير، الذي يقوم على الألفاظ وينقطع عن الفعل أو التحقيق، بل يكون غاية في ذاته، وغرضا يستهدفه الكل دون أن يقصد به تحقيق أى شيء، وهو ما عبر عنه الشاعر العربي فيما بعد، فقال :

ولقد سئمت مآربي وكان أكثرها خبيث

إلا الحديث فإنه مثل اسمه أبدا حديث

وكان لابد أن يمتد هذا النهج إلى النبع الأخلاقي الذي كان يصدر عن ماعت الكائنة في ذات الانسان، فيرتبط وينضبط بماعت الكونية، ومن ثم يكون لضمير الفرد علائق ووشائح وثوابت من الضمير الكوني، فصارت الاخلاق بعد انفصال الفرد عن الكون وانفصام الضمير الفردي عن الضمير الكوني كما قال أرسطو (348 – 322 ق م) بحق في كتابه الاخلاق: مجرد ثرثرة يتشدق بها العامة في مجالسهم ليقيموا منها معايير تدين أغيارهم، لكنها لا تلزمهم أبدا.

كان على المصري القديم أن يتوجه إثر وفاته إلى المحاكمة الكبري التي تنعقد برياسة أوزير (إدريس) وبحضور 42 قاضيا، فيسير إليها على صراط مستقيم، ويجتازه بسهولة إن كان نقى السريرة ثابت الجنان، إما إن لم يكن كذلك، فقدَ التوازن وسقط في نار مشتعلة حيث تلتهمه الحيوانات الضارة فيصير إلى عدم. فإذا اجتاز الصراط المستقيم ووصل إلى قاعة المحكمة، قدم نفسه على انه كان نقى القلب تقى الصدر، لم يؤذ أى انسان أو اى حيوان، وإنما أطعم الجائع، وروي الصادى، ولم يتعد الحدود. يقول ذلك صراحة بلا مراءاة، لأنه كان يخشي أن يشهد عليه عضو من أعضائه بغير ذلك. ثم يوضع الميزان، قلبه في كفة منه، وريشة العدالة (ماعت) في كفة آخرى، فإذا اعتدلت موازينه أُعلن أنه برئ ودخل الجنة. ومع الوقت، وكما يحدث عادة - فقد تدخل الكهنة – لانفصال ضميرهم الفردي عن الضمير الكوني، وانفصام الالفاظ عن المعاني والاقوال عن المباني – تدخل هؤلاء الكهنة إلى العقيدة فأفسدوها، إذ قصروا الجنة على عبّاد أوزير (إدريس) وجعلوا السبيل إليها – بدلا من الحساب العسير الذي يفيد قيام النظام الاخلاقي – تمائم وتعاويذ وسحرا وقلائد وايقونات وطلاسم وتلاوات واحجية وأدعية، فصارت زيفا، وتحولت الجنة إلى مظاهر مادية ولذائذ جسدية، يدخلها من كان يحمل سلاح الكهنة، حتي لو كان قد عاش فاسدا بلا اخلاق.

رسخت هذه المادية في عقول البشر، ورسفت في نفوس الناس، حتي بعد ظهور الدين. وقد كان المقصود بالدين أن يربط الانسانية بالكونية، ولفظ ( Religio ) اللاتينية، والتي جاء منها لفظ ( Religion ) الانجليزي والفرنسي بمعني الدين، تعني في الاصل رابط أو رابطة ( Bond ). ولكن هذه الرابطة انحرفت إلى المادية وانجرفت إلى التجسيدية. فالجنة في التوارة هي جنة عدن، وهي توجد على الأرض، جنوب العراق، وكان يوجد نهر يخرج من عدن ليسقي الجنة، ومن هناك ينقسم إلى أربعة أنهر، اسم رابعها نهر الفرات الموجود حالا (حاليا) في أرض العراق (سفر التكوين).

وقد سلف بيان ما جاء في سفر الخروج عن صورة الله، وهي صورة مادية، لأن العقل المنحبس في حواسه المادية لا يستطيع أن يتصور ما يخرج عنها، وانحصر في التقاليد لا يمكنه أن يثور عليها، ومن ثم قيل (..ثم صعد موسي وهارون.. وسبعون من شيوخ إسرائيل ورأوا إله إسرائيل وتحت رجليه شبه صنعة من العقيق الأزرق الشفاف، وكذات السماء في النقاوة.. وكان منظر مجد الرب كنار آكلة على رأس الجبل). كما أورد أبو الحسن الأشعري بعض مقالات الإسلاميين (أى مذاهب المتأسلمين) عن الله، وهي أوصاف مادية، تكلفوا في جعلها غريبة عن المألوف لكي لا يكون كمثلها شيء، فقال بعضهم (إن الله جسم وله نهاية وحد، طويل عريض عميق، طوله مثل عرضه وعرضه مثل عمله) وقال البعض الآخر (إن الله نور ساطع. له قدر من الأقدار في مكان دون مكان، وطعامه هو رائحته، ورائحته هي مجسته، وهو نفسه لون) وقال البعض الثالث (انه جسم ذاهب جاء، فيتحرك تارة ويسكن أخرى ويقعد مرة ويقوم بأخرى. وهو طويل عريض عميق، لآنه مالم يكن كذلك دخل في دور التلاشي).

هذا فكر سقيم وقول عقيم، كان الذي ينكره أو يجحده يعتبر ملحدا، مع أن ذلك الفكر هو الالحاد بذاته، إذ يحول الله الخفى إلى وثن مشهود، له أوصاف وخصائص وجسم ورسم.

ظلت البشرية تعاني طويلا من المعتقدات المادية التي ألحدت في الالوهية، وأسقطت الحادها هذا توثينا للوظائف وتجسيدا للخصائص. ولم يكن ثمت مهرب او منقذ للبشرية إلا بوضع الكهانة ضمن نطاق محدد، وإطلاق العقل بعيدا عنها حتى يصل إلى الصواب، من خلال الخطأ والتجربة.

وكان الاسلام المستقيم قيمنا بأن يكون هو البداية في ذلك، لأنه ينكر الكهانة الرسمية، ولأنه يمجد العقل ويؤسس عليه الايمان والمساءلة، لكن هذا الفتح الصائب سرعان ما انعكس إلى ضده وانقلب على رأسه، عندما ظهرت في الاسلام كهانة واقعية ( De Facto ) لها نفس سلطات وضغوط وامتيازات الكهانة الرسمية ( De Jure ) ولأن الاعتصام بالتعقل والتدبر والتفهم تحول إلى صيغ عقيدية جامدة (دوجماطية) وأحياناً خرافية، تمنع التعقل وترفض التدبر وتأبي التفهم، فإذا بالمسلمين يرددون آيات ترفض الكهانة وتعتبر أنهم قد يشكلون عبادة لهم غير عبادة الله، كما يرددون الآيات التي تقضى بضرورة إعمال العقل واتباع التقدير والتدبير والتفهم، معه أنهم يتصرفون على الضد منها وعلى العكس من أحكامها، فصدق عليهم الوصف القرآني (يا أيها الذين أمنوا لم تقولون ما لا تفعلون، كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) سورة الصف 61: 2-3.

إن الغاية الاساسية والقبلة الرياسية للانسان أن يكون في الكون لا أن يكون من الكون، كالسائمة أو الجماد او الزاحفة.

SaidAlAshmawy@hotmail.com

 

 

 

Link to comment
Share on other sites

دستور الاسلام المستنير (17): الديمقراطية والدكتاتورية

GMT 21:30:00 2007 السبت 3 فبراير

المستشار محمد سعيد العشماوي

 

 

 

--------------------------------------------------------------------------------

 

 

كانت بلاد اليونان، قي القرنين الخامس والرابع – قبل الميلاد- تتكون من مدن متقطعة أهمها مدينتا أثينا واسبرطة. وكان معظم اليونان يعتقدون أن عناصر كثيرة من حضارتهم قد جاءت من مصر . وتعزو قصصهم نشأة كثير من المدن اليونانية، بأسماء مصرية، تيمناً بها. وزار مصر كثير من عظماء اليونان المشهورين أمثال طاليس وفيثاغورس وصولون وأفلاطون وديمقريطس فأعجبوا أشد الاعجاب بقدم حضارتها وعظمتها. ولأن بلاد اليونان لم تكن موحدة بل مدنا متفرقة، تقوم في كل منها دولة المدينة (Polis state)، ولأن الكهنة المصريين كانوا يمتلكون نواصى العلوم والفنون جميعاً، وكانوا يضنون بها على الغرباء، فإن اليونانيين عملوا على استغلال ما استوعبوه من أفكار مصر لتكوين حضارة خاصة بهم، كانت تقوم على الفلسفة أساسا. والفلسفة لفظ مركب من مقطعين (Philo بمعني محبة، Sophy بمعني الحكمة) بما يعني أنها محبة الحكمة. وقد دعاهم هذا، إلى جانب عدم وجود نظام للكهانة يفرض ديانة منظمة، إلى فهم الفلسفة على انها دراسة المبادئ الاولى للوجود والفكر دراسة موضوعية تنشد الحق وتهتدي بمنطق العقل. ومن هذا النظر، لا تبدأ الفلسفة (محبة الحكمة) من مسلّمات (Postulates) مهما كان مصدرها، لكنها تحلل بداية كل فكر أو اعتقاد، وأصل كل لفظ أو كلمة.

ظهر هذا الاتجاه في جزيرة ايونيا (التى صحّفها العرب إلى اليونان) بمدرسة الطبيعيين الاولين التى ابتدأها طاليس، برد كل عناصر الكون إلى مادة واحدة قال إنها الماء، بينما قال ديمقريطس إنها الذرة. وتبع ذلك إنشاء فيثاغورس لجماعة الاخوان الفيثاغورسيين، وهى جماعة ذات تعاليم سرية تدرس الحكمة من خلال الموسيقي والرياضيات والفلك والتأمل العميق، وأعقب هذه الجماعة ظهور السفسطائيين برياسة بروتاجوراس، وهى جماعة قوامها التلاعب اللفظي،والتداعب بالجمل والكلمات، لإثبات خطأ اى قول وتلبيس دلالة اى معني . وقد تولّى الرد عليها وتقويضها الفليسوف الشهير (ومبتدع لفظي الفلسفة والفيلسوف) سقراط (469-399 ق.م) الذي دعا إلى العدل والحكمة والاخلاق الحسنة، وكان من تلاميذه أفلاطون (حوالى 427-347 ق.م). وقد نشر محاورات أختلط فيها فكر سقراط بفكره، كان بطلها سقراط ، وهو يعمل من خلال المحاورات مع الآخرين على نشر أفكاره وآرائه في الحق والعدل وحسن الاخلاق. وقد اتهمت السلطة الباغية في أثينا ، شأن كل سلطة طاغية، سقراط بأنه يفسد الشباب (إذ لايأمرهم بالطاعة العمياء وإنما يدعوهم إلى التفكير والاختيار)، ولما حُكم على سقراط بالاعدام رفض أن يهرب ونُفذ فيه الحكم، ففزع تلميذه وصفيّه أفلاطون وفر إلى سراكوزة (أو سراقيوسة) وعمل مستشاراً لحاكمها الطاغية، فبرّر له عمله، وحرر كتابيه "القوانينThe Laws، والجمهورية) عندما عاد إلى أثينا، وأنشأ له أكاديمية كتب على بابها شعارا اتخذه من مصر، نصه أن (المعرفة أول سبيل التطهير).

وقد أدى هذا المناخ الثقافى – المعبّق بعناصر التنوير والخاوى من نظام الكهانة – إلى ظهور الديمقراطية، وإن كانت بقصور. والديمقراطية لفظ يوناني (Democracy) يتكون من مقطعين (Demo) بمعني الشعب، و(Cracy) بمعني القوة أو السلطة. ومن ثمت فهى تفيد: حكم الشعب . وكان البالغون يجتمعون في سوق المدينة بأثينا ليتخذوا القرارات في كل أمر يُعرض لهم بالجدال الحسن والنقاش الحر والا قتراع الواضح ، غير المزور.

وعلى ما سلف ، فقد فرّ أفلاطون من أثينا بعد إعدام استاذه سقراط، ولجأ إلى سراكوزة (في جزيرة صقلية) حيث عمل مستشاراً للطاغية ديونيوس (ح430- 367 ق.م) . ونتيجة لتبريره أعمال الطاغية وتسويغه الاسلوب الدكتاتوري ، فقد جنح (أفلاطون) عن تعاليم سقراط الراقية، وابتدع ماسماه المدينة الفاضلة !! في هذه المدينة التى رسمها أفلاطون – كما سلف – في كتابيه القوانين (The Laws)، والجمهورية (The Republic) صارت العدالة عنده هى ما يكون في مصلحة الدولة (دولة المدينة Polis State) حيث يُلزم كل فرد المكان الذي يوضع فيه ، ويقبل جميع الناس الشعارات التى تصدر عن الحاكم، والتى لا تقبل التعديل لأنها رمز العدالة الأبدية.

يشبّه أفلاطون حكام الدولة بالرعاة. وهو يقصد باللفظ المعني الحاد الذي يعني الحراسة التي يقوم بها الراعي لقطعانه من المواشى، وفي سبيل تعزيز هذا المعني يؤكد أفلاطون ما يفيد أن فن حكم الناس لا يختلف بالضرورة عن فن حكم الماشية وتربيتها.

ويضيف أن للحكام أن يقولوا "نحن الدولة" ، وهو ما ردده فيما بعد لويس الرابع عشر ملك فرنسا في قالته المشهورة (الدولة أنا L`Etat c`est moi) ، ولهذا فإن الحكام هم هيئة، لايمكن ان يسوسها أحد غيرها، وعن طريق حكمتها يُعرف ما هو خير لغيرها، أى خير السواد الأعظم من الناس.

في جمهورية أفلاطون، أو مدينته الفاضلة، يسيطر الحكام على التربية والآداب والفنون، حيث تخضع كلها للرقابة والتكيّف مع مصالح الرعاة (الحكام)، بل إن الشعر والفن والموسيقي يتحتم أن تكون مسايرة لمقتضيات السياسة، وهي سيطرة تؤدي إلى أن تُستأصل من الجمهورية جميع الآداب العريقة. فالمفهوم الرئيس في السياسة لدى أفلاطون هو سيادة الدولة سيادة مطلقة، لأن الدولة (يقصد الطاغية) وحدها يمكن أن تكون كاملة وأن تكفى نفسها، ولا يكون الافراد الا ناقصين، ويقول في ذلك (الدولة وحدها يمكن أن تبقي ثابتة غير متغيرة، أما الافراد فمصيرهم إلى الزوال في تعاقب سريع، ومن ثم وجب أن يخضع الفرد للدولة، وإن يُضحى عند الضرورة في سبيلها. ومن المتعين أن يكون للدولة رئيس، وهو قائد مطلق، وبغير ذلك لا يمكن للدولة البقاء. ومهما يكن من أمر، فإنه متي قام القائد وجبت طاعته في ثقة كاملة، حتي في أتفه الأمور، وفي ذلك يقول نصّاً في كتاب القوانين (إنه من اللازم ألا يتعود عقل أن يُقدم على فعل، ما زحاً أو جاداً، بباعث من نفسه، بل يتعين عليه... أن يتطلع إلى قائده وأن يتبعه حتي في أتفه الأمور... من ذلك أن يستجيب لأمره حين يقف أو يتحرك أو يغتسل أو يتناول وجبات طعامه ... متي تلقى أمرا بذلك... وعلى العموم ألاّ يُعلم نفسه أو يعوّدها أن تعرف أو تفهم كيف تأتي فعلا وهي مستقلة عن غيرها). في هذه الدولة يقدم أفلاطون ديانة تختلف اختلافاً بيّناً عن الديانة الشائعة في وقته، فهو يرى أن يُكره الرعايا جميعاً على الاعتقاد في إلاهه، وإلا كان عقابهم الاعدام.. كما يصر على أن الحرية في المناقشة محرمة في النظام الذي يفرضه (هذا الدين).. وهو لا يُعني بما إذا كانت الديانة حقيقية أم غير حقيقية، صحيحة أو غير صحيحة، ولكنه يهتم أساسا بما لهذه الديانة من أثر في كيان الدولة (دولة المدينة) وحفظ النظام فيها:

وعندما بدأ عصر النهضة (أو الاستنارة Enlightment) في أوروبا فقد التفت القائمون عليه إلى بلاد اليونان، ولاحظوا أنها أبدعت فكرا راقياً لخواء بلادها من نظام الكهانة الصارم، ومن إعمال العقل في كل شئ، بدءا مما يسمي بديهيات. هذا بالاضافة الى ترجمات عبرية عن بعض أعمال إسلامية ومنها أعمال ابن رشد الذي كان يُولى العقل اهتماماً شديداً. ومن هذه القواعد سارت النهضة فأحدثت استنارة كاملة لدى الشعوب، بدأت بها الديمقراطية، أى حكم الشعب ومساءلة الحكام. ذلك أنه في التقدير السليم، فإن الديمقراطية لا يمكن أن تقوم وتستقر إلا إذا سبقتها أعمال للتنوير، فما دامت الديمقراطية هي حكم الشعوب، فكيف يمكن للجاهل أن يحكم؟ وكيف يستطيع أن يُصدر قرارات أو أن ينشئ أحكاماً من لا يعرف شيئاً عن هذه أو تلك، ومن يدفعه الجهل مع كل شأن عاطفى.

بعد الثورة الفرنسية (1789م) بدأت الديمقراطية تستقر وتنتشر في البلاد الاوروبية، وفي الولايات المتحدة وكندا (مع عوار ظاهر فيها)، ولكن الظروف الخاصة بالروسيا وبألمانيا وإيطاليا، أدت إلى ظهور الأيديولوجيا الطبقية في الروسيا وإلى سيطرة الأيديولوجيا القومية في ألمانيا (النازية) وفي ايطاليا (الفاشية) .

والفاشية هى لغة، بالانجليزية (Fascism) وبالفرنسية (Fascio) وبالايطالية (Fascismo) وباللاتينية ((facis وهي تعني بالانجليزية:

(1) The totalitarian principles and organization of the extreme right – wing nationalist movement in Italy (1922 – 43 ) .

(2) Any similar nationalist authoritarian views .

 

وهو ما ترجمته:

(1) المبادئ الشمولية أو التعاليم اليمينية المتطرفة في إيطاليا خلال فترة حكم موسوليني .

(2) أىّ تنظيمات أو أفكار مشابهة (شمولية)، أى يمينية متعصبة (متشددة).

 

ولأن النازي كان إسما لحزب هتلر في ألمانيا، وقد أقيم على نمط تنظيم موسوليني وإن تفوق عليه، فقد غلب إطلاق أسم الفاشية على الفكر أو الشخص الدكتاتورى . وقد تأثرت أغلب الحركات السياسية التي ابتدأت في مصر خلال الثلاثينيات، أو كانت موجودة من قبل، بالفكر والنظام الفاشي، خاصة وأنها كانت تكون المحور (ألمانيا وايطاليا واليابان) الذي يعادي البلاد المستعمرة لهم. وقد كانت تتصور أن هذا النظام الفاشي، دون أى تنوير، كاف لنهضة الوطن الذي كان عدوه الاستعمار البريطاني أو الفرنسي (قبل أن تظهر الولايات المتحدة في الصورة). فالوفد – وهو الحزب الليبرالى أساسا – شكل منظمة القمصان الزرق تشبها بالقمصان السود في ايطاليا، والاخوان المسلمون شكلوا منظمة الكشافة والجهاز السري، وهلم جرا.

وإذا كان حزب الوفد قد استطاع بحكم نشأته الليبرالية أن يستمر بعد إلغاء منظمة القمصان الزرق (1937)، فإن جماعة الاخوان المسملين لم يكن لديها فكر ليبرالى (حر) وإنما شعارات واتجاهات متشددة، ومن ثم لم تستطع أن تتخلص منها أبدا، وحتى اليوم. ففي تنظيماتها وفي تصرفاتها تظهر الفاشية (وهو بديل للفظ الديكتاتورية) واضحة ظاهرة، كما يبدو العنف والتلوّن والميل إلى إستئصال الغير .

وقد استقبلت (أى جعلتها قِبلة لها) الاتجاهات الفاشية في كل مكان في العالم ما كتبه أفلاطون عن الراعى والرعية في مدينته التي سماها بالفاضلة !! فمن يعاود قراءة هذه الكتابات التي ذكرت الدراسة بعضها نصاً، يجد أنها الدستور القائم والمستمر لجماعات الاسلام السياسي وغيرها من الجماعات المماثلة .

وخلاصة ذلك، أن الديمقراطية والديكتاتورية نظم نشأت في أثينا في القرن الرابع قبل الميلاد، واستحيتها أوروبا في القرون الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين، وأن مصر والعالم العربي كله – بعد الحكومات الفاشية – لا تستطيع أن تتخذ سبيلاً إلى الديمقراطية ما دامت الأمية الابجدية والثقافية والسياسية ضاربة فيها، ولكى تقام فيها ديمقراطيات حقيقية، غير صورية، فلابد أن يبدأ الطريق بالتنوير، فلا ديمقراطية بغير استنارة. مع ملاحظة أن للتنوير عنصرين مهمين أولهما – ما ذكرته منذ عام (1980) وما لاافتأ أردده من أن "لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين" وهو ما يعني فصل السياسة عن الدين وليس فصل الدولة عن الدين، لكى يلتزم بهذا الفصل كل من السلطة والمعارضة. أما ثانيهما- فهو ضرورة إعمال العقل في كل شئ، وهو الأساس الذي قام عليه الاسلام ويدعيه أنصار الاسلام السياسى، قولاً بغير عمل، وتشدّقا دون تطبيق.

ولا يعد هذا الامر عالمانية، لأن العالمانية هي نسبة إلى العالم وليست نسبة للعلم، ومجالها الفكر المسيحي الذي كان لديه عالم الكهنوت، وعالم آخر من المدنيين الذين يعملون في الاديرة والكنائس، والذين سُموا بالعالمانيين لتمييزهم من عالم الكهانة. وقد ترجم لفظ (Secularism) إلى العَلمانية، ولكن لعدم وجود تشكيل في الصحف فقد كُتب اللفظ بغير تشكيل يضُع الفتحة على العين، ومن ثم نطقها الناس عِلمانية (بكسر العين)، وتصوروا من ثم انها اتجاه يعادى الدين، مع أن صحة النطق عالمانية وهي تشير إلى عالم آخر ولا تفيد اى اتصال بالعلم . ومن هذا يظهر أن الجهل بلفظ واحد يمكن أن يؤدي إلى منظومة كاملة من فكر خاطئ، فما البال إذا حدث الخطأ في تعبيرات كثيرة وتركيبات كاملة، إنه يكوّن مجموعة من التخليط والتخبيط والاضطراب والجنون!!

 

SaidAlAshmawy@hotmail.com

 

 

Link to comment
Share on other sites

Join the conversation

You can post now and register later. If you have an account, sign in now to post with your account.

Guest
Reply to this topic...

×   Pasted as rich text.   Paste as plain text instead

  Only 75 emoji are allowed.

×   Your link has been automatically embedded.   Display as a link instead

×   Your previous content has been restored.   Clear editor

×   You cannot paste images directly. Upload or insert images from URL.

Loading...
×
×
  • Create New...