Jump to content
Baghdadee بغدادي

حداث وذكريات في بغداد وكردستان (( 1973 ـ 1974 ))


Recommended Posts

 

 

 

 

 

أحداث وذكريات في بغداد وكردستان (( 1973 ـ 1974 )) - د. عدنان الظاهر

 

[24-04-2005]

ناظم كزار / وحش قصر النهاية

في صيف عام 1973 قام جلاّد قصر النهاية السابق ومدير الأمن العام ( ناظم كزار ) وزمرة من معاونيه القتلة والمجرمين العريقين بمحاولة ما زالت مجهولة الدوافع لقتل رئيس الجمهورية غير المنتخب يومذاك أحمد حسن البكر ساعة وصوله مطار بغداد عائداً من العاصمة البلغارية صوفيا بعد أن لبّى دعوة رسمية لزيارة جمهورية بلغاريا. أُحبطت المحاولة لكنَّ ناظم كزار وزمرته إستطاعوا إعتقال وزير الدفاع حماد شهاب ووزير الداخلية سعدون غيدان. قتلوا وزير الدفاع وجرحوا وزير الداخلية ثم لاذوا بالفرار. أُلقي القبض عليهم في طريق هروبهم إلى بلد مجاور. تم تعذيبهم وقتلهم بشكل بشع حدَّ التمثيل بجثثهم. مع ناظم قتلوا معاونه حسن إبراهيم المطيري والمجرم العريق ناجي الدليمي ثم محمد فاضل. (( للإطلاع على المزيد من تفصيلات هذه الواقعة أرجو الرجوع إلى الملحق رقم 1 )).

لقد قتل المجرم ناظم كزار آواخر عام 1969 أو آوائل عام 1970 في قصر النهاية وبمسدسه الشخصي قريبي الشهيد البطل محسن ناجي الخفاجي ( ناجي البصبوص / …تعرفه الحلة جيداً ). كان محسن أحد قادة تنظيم القيادة المركزية التي إنشقت بزعامة عزيز الحاج عن الحزب الشيوعي العراقي ( اللجنة المركزية ). أشاع صدام وأجهزته الأمنية والحزبية أنَّ هبّةَ ناظم كزار ما كانت سوى فتنة طائفية. لكنْ إنتشرت وقتذاك شائعات مؤداها أن صدام حسين كان على علم بتفصيلات المحاولة. تركها تمضي حتى ساعتها الأخيرة محققاً هدفين عظيمين في وقت واحد : التخلص من منافسين له خطيرين حزبياً وأمنياً وسياسياً. كان كزار وعصبته أقدم من صدام في حزب البعث. وكانوا يحاولون حصر النشاط الأمني والمخابراتي في دائرة عناصرهم وتجريد أو تقليص نفوذ صدام حسين الأمني والمخابراتي حيث كان هو رئيس جهاز ( حنين ) المكرس لا للإمن فقط، وإنما لإغتيال الخصوم. أما الهدف الكبير الثاني فهو إرهاب أحمد حسن البكر وإبتزازه وجعله يشعر بالممنونية لصدام حسين الذي أنقذ حياته. أصبح البكر في حماية صدام وتحت رحمته وحياته في قبضة يده. صدام إذن بطل ومنقذ وقريب ثم تكريتي كالبكر. على هامش هبّة ناظم كزار الفاشلة تمت مساءلة وتجريد إثنين من عناصر البعث القديمة من مسؤولياتهم الحزبية والوظيفية. أولهم زميل دراستي في مدارس الحلة، كريم إبراهيم المطيري، شقيق حسن المطيري القتيل.كان كريم قبل محاولة ناظم كزار عضواً في فرع قيادة بغداد لحزب البعث ومديراً عاماً لدار الحرية ورئيساً لمجلس إدارة مؤسسة وجريدة الجمهورية البعثية. الصحافي حسن العلوي يعرفه جيداً، فلقد كان واحداً من موظفيه التابعين له. فهو لا شكَّ يعرف الكثير عنه حزبياً ووظيفياً. بعد المحاولة بعامين تقريباً إلتقيتُ ذات يومٍ وكريم المطيري في شارع 14 رمضان في حي المنصور في بغداد فأخبرني إنه يدير مكتبة ثانوية المأمون للبنين. العنصر الثاني الذي أُطيحَ به هو ( علي رضا باوة ) أحد معارفي من زملاء الدراسة في دار المعلمين العالية، وهو كردي شيعي ( فيلي ). فُصِلَ من الكلية لرسوبه في دراسته للفيزياء عامين متتاليين.

(( كذلك كان حال ومصير وزير داخلية إنقلاب الثامن من شباط حازم جواد. فُصِل من دار المعلمين العالية بسبب الرسوب المتتالي وكان يدرس الكيمياء )).كان علي رضا قبل محاولة ناظم كزار مديراً عاماً للعلاقات الخارجية ( مخابرات الخارج ). جُرّد من وظيفته وطرد من حزبه وسُجن ثلاثة أعوام. رأيته بعد خروجه من السجن فقال إنه يملك ويدير مخبزاً في بعض مناطق حي المنصور في بغداد. كنت أرى قرينته السيدة ( أم نجوى ) في مكتب أخي جليل أثناء بعض زياراتي له. كان أخي حينذاك مديرَ الإدارةِ والذاتية في المديرية العامة للإشراف التربوي، وكانت السيدة أم نجوى مشرفة تربوية. كنتُ أوصي أخي بها خيراً حين كان قرينها نزيل السجن. أسدى لي ( علي رضا باوة ) عام 1970 جميلاً لا ينساه الكريم أبداً. سألته ـ وكان بيته قريباً من بيتي يقع على شارع عريض يتفرع من شارع فلسطين ـ عن مصير قريبنا بالتناسب اللواء العسكري المتقاعد المرحوم ( كاظم حسن ). كان قد أُعتقل وغُيّب في السجون وإنقطعت أخباره. قال لي ( علي رضا ) إنه ما زال حيّاً تحت التحقيق. بشّرتُ قرينته أم أُسامة وطبيب الأسنان عصام وبناتها بالخبر فلم يصدقوه. مضى علي خطوة أخرى في جميله. سمح لأبي أُسامة أن يتكلم من قصر النهاية بالتلفون مع أم أُسامة فلم تصدق ما كانت تسمع. كانت تكرر والدموع في عينيها (( هل صحيح هذا صوتك، صوت الحجي أبو أسامة ؟ أما زلتَ على قيد الحياة ؟ من أين تتكلم معي ؟ )). أُطلِق سراح الحجي كاظم حسن بعد ذلك بمدة قصيرة ولكنْ بشروط : أن لا يختلط بضباط الجيش العراقي أولاً، وأن يمسك لسانه ولا يكشف عما تعرض له في قصر النهاية من تعذيب وإذلال. وأخيراً أن لا يقصَّ لأحد من الناس وقائع ما رأى من تعذيب وإستجواب لباقي نزلاء قصر النهاية من وزراء سابقين وضباط كبار وسواهم من رجالات الدولة. أطلق الجلادون سراح هذا الضابط الكبير المتقاعد لكنهم حاولوا التخلص منه بقتله بحادث سيارة مجهولة الرقم أثناء عبوره شارع الرشيد. نجا الرجل الكبير من الموت الآني لكنه أُصيبَ بكسور خطيرة لم يتحملها طويلاً ففارق الحياة.

الشيء بالشيء يُذكر : قُتل بعد ذلك نجل اللواء كاظم حسن الأكبر ( أُسامة ) كذلك في حادث سيارة ولكن في العاصمة الفنلندية هلسنكي.كان أُسامة مقيماً هناك لفترة طويلة مع زوجه الفنلندية يدير مطعماً للأكلات الشرقية ويتاجر بالسجّاد ويقوم بتنظيم سفرات سياحية لبغداد وسواها من عواصم العرب.كان أُسامة ضابطاً صغيراً أبعده البعثيون من الجيش العراقي إثرَ إنقلاب شباط 1963. سمعت حديثاً أن الولد الثاني لكاظم حسن، طبيب الأسنان عصام كان هو الآخر نزيل قصر النهاية أيام كان ما زال طالباً في كلية طب الأسنان في بغداد. كتب عنه الوزير الأسبق عبد الكريم فرحان في كتابه ( حصاد ثورة ). الطريف أن المرحوم كاظم حسن كان محسوباً على العهد الملكي ثم على عبد الكريم قاسم إذ أصبح بعد ثورة الرابع عشر من تموز 1958 مدير المزارع الحكومية العام. أما أبناؤه فكانوا جميعاً محسوبين على أقصى اليسار العراقي.

 

في جامعة السليمانية / أيلول 1973 ـ أيلول 1974

صمتت جامعة الفاتح الليبية على قبولها ترشيحي وزميليَّ الآخرين للتدريس فيها. لذا لم أستطع الحصول على تأشيرة دخول أراضيها. في عين الوقت، كان في حوزتي عقدٌ للتدريس في جامعة الجزائر وتذكرة للسفر طيراناً من بغداد إلى مدينة الجزائر العاصمة ولكن، كان راتب الأستاذ الجامعي في الجزائر هو الآخر متواضعاً. في ربيع عام 1973 عرض عليَّ الصديق والزميل الدكتور عبد الرضا الصالحي أن نرحل شمالاً ولكنْ داخل الوطن للتدريس في جامعة السليمانية لفترة عامين فقط تنسيباً لا نقلاً دائماً. رأيت في هذا المقترح الحل الأمثل للإبتعاد عن مشاكل ومضايقات الطلبة البعثيين وأجهزة أمن ومخابرات حزب البعث داخل وخارج جامعة بغداد، ثم التمتع بمزايا لا توفرها لي خدمتي في جامعة بغداد. كانت جامعة السليمانية تمنح الأساتذة الجُدُد والقادمين إليها من جامعات عراقية أخرى من باب التشجيع درجةً أعلى في سلّم الرواتب، فضلاً عن مخصصات سكن مجزية ( 35 ديناراً شهرياً ). بهذا سيقفز راتبي الشهري الأصلي إلى مائة دينارٍ مضافاً إليه مخصصات غلاء المعيشة ثم مخصصات السَكن. الحاصل النهائي مبلغ محترم بمقاييس ذاك الزمان. أمام هذه المغريات إقتنع صديقنا الدكتور محسن البيرماني بالفكرة فوافق على الإلتحاق بنا فقدمنا ثلاثتنا إلى رئاسة جامعة بغداد طلبات التنسيب لعامين دراسيين للتدريس في جامعة السليمانية. وافقت جامعة بغداد ووزارة التعليم العالي والبحث العلمي (( أمر وزاري برقم 18787 بتأريخ 21-8-1973 )) على طلب التنسيب فتأهبنا جميعاً للإنتقال شمالاً كيما نجرب حظاً آخرَ مختلفاً بعض الشيء عما كنا فيه في بغداد وجامعة بغداد. زرنا مدينة السليمانية وإستأجرنا دوراً لنا فكان داري مقابل المدخل الخلفي لجامعة السليمانية. أضحكني صاحب داري السيد ( حه مه أمين، أي محمد أمين ). عرضت عليه ثلاثين ديناراً إيجاراً للبيت فإعترض قائلاً : كاكا إنت ياخذ خمسةً وثلاثين ديناراً بدلَ سكن، ليش ينطيني ثلاثين ؟ ). إذن فالرجل يعرف حكاية مخصصات السكن ومقدارها المضبوط. كان الرجل الطيب تاجراً يبيع الأقمشة نهاراً في دكانه عَلناً ويبيع السجاد الإيراني المهرّب

في بيته سرّاً وتحت جنح الظلام.

غادرتُ وعائلتي بغدادَ صباح اليوم الحادي والثلاثين من شهر آب 1973 متجهين نحو مدينة السليمانية : سيارة صغيرة إستأجرناها لنا، وشاحنة كبيرة تتبعنا تحمل متاعنا البيتي. وصلنا مدينة السليمانية عصراً فرتبنا أمورنا في بيتنا الجديد وكان بيتاً كبيراً حديث البناء لا تفصله عن مباني الجامعة إلاّ بضعة أمتار. سجلّت صباح الأول من أيلول مباشرتي في قسم الكيمياء الذي كان يرأسه الدكتور الصيدلي إحسان الراوي. وكان عميد كلية العلوم إبن السليمانية الدكتور علي توفيق ورئيس الجامعة الدكتور حكمت توفيق فكرت. كما سارعت إلى تسجيل أطفالي ( أمثل وأخته قرطبة ) في مدرسة أهلية للأطفال تديرها الراهبة الست ( فرانسوا ) التي سَرعان ما إكتشفتها زوجتي بأنهاكانت في الماضي تدير مدرسة مماثلة في مدينة البصرة. إنسجمت طفلتنا مع مدرستها الجديدة على الفور.لم تبلغ سن الفطام بعدُ، فكانت ترضع سائل حليب ( النيدو ) المجفف بالزجاجة فيصرُّ أخوها الذي أتمَّ عامه الثالث أن يحذو حذوها ويأخذ ما تأخذ من سوائل وأغذية.كأخيها، كانت تردد ما تسمع وترى على شاشة التلفزيون من أغانٍ. ففي مدرستها الجديدة كانت تغني أغنية ( ما أندل دلوني يا بابا ما أندل دلوني ) وأغنية أخرى للأطفال ( تحيا بلادي… بابا حياتي روحي وقلبي، لكنها كانت تؤديها بشكل آخر : بابا حياتي لوعي وببّي ). وكانت تسمّي عمها جليل ( عمو دليل ) وتسمّي العنب ( عِمَنْ ) والجبل ( جَمَنْ ) والبقلاوة

( واوهْ ) ونافورة المياه العالية والأضواء الملونة القريبة من بيتنا في بغداد ( ماموثة ).كانت قد أتمت عاماً واحداً وثمانية أشهر.كَبُر أطفالنا وأصبحوا يتكلمون ويغنّون ويحبون رياض الأطفال. صارا لأبويهما المتعة والسعادة والنعيم. الصوت والحركة. الأمل والمستقبل.

رأينا في السليمانية عالماً جديداً لنا. الطقس والناس والجبال الشاهقة المحيطة بالمدينة. أخذت من الجامعة سلفة عالية لشراء السجّاد الإيراني الفاخر، فلقد درجت الجامعة على تسليف أساتذتها مبالغَ محترمة لتأثيث بيوتهم وإعدادها لمقاومة برد وثلوج شتاء كردستان. تم توزيع المقررات الدراسية فكان نصيبي تدريس مادة الكيمياء غير العضوية لطلبة السنة الثالثة / كلية العلوم، ومادة الكيمياء الفيزيائية لطلبة السنة الثالثة / قسم الفيزياء من نفس الكلية. كان رئيس قسم الفيزياء إبن العائلة الحلاوية وزميل الدراسة في جامعة موسكو الدكتور

( ماجد صادق علوش ). وجدت في مكتبة الجامعة الكتب التي أحتاج كمصادر للتدريس. كانت كتباً جيدة وباللغة الإنجليزية. في نفس الوقت باشرت زوجتي دوامها مدرّسةً للفن ( الإقتصاد المنزلي ) في مدرسة للفنون البيتية مديرتها السيدة الرائعة الخلق

( حسيبة شالي )، شقيقة أحد طلابي ( بختيار )، والأستاذ في كلية الزراعة الدكتور

( خسرو شالي ). تعرفنا على المدينة والبعض من ضواحيها القريبة ولاسيما منطقة

( سرجنار ) السياحية حيث معمل الإسمنت والمقهى الحديث وبركة الأسماك.كان منظر جبل ( كويشه ، حرف الشين هنا لا يقابل الصوت الأصل الذي لا وجود له في اللغة العربية ) ساحراً مهيباً رغم كونه أجردَ خالياً من الخضرة والشجر. قيل لي إنَّ في قمته العالية مقهى تطل من الأعالي على مدينة السليمانية، لكني لم أرها للأسف الشديد.

كنت في غاية السعادة في عملي الجديد بعيداً عن تسلط البعث وعناصر ما يسمى بالإتحاد الوطني. كنت سعيداً وأنا في وسط الشعب الكردي الكريم الأبي المضياف والطلبة الكرد الشجعان. كانوا في غاية الأدب وكنت أتعلم منهم بعض الكلمات الكردية مثل سرجاو،

شوباش، خوا حفيز، روز باش…، كنا في كردستان لكن غالبية طلبة الجامعة كانوا عرباً. لذلك كنتُ أقدم محاضراتي بشكل أساس بالعربية ثم بالإنجليزية. إحتج يوماً أحد طلبتي من أهالي السليمانية طالباً مني الكلام بالإنجليزية فقط. قلت له لكنَّ غالبية الحاضرين من الطلبة العرب. ولو كنت أعرف اللغة الكردية لتكلّمتها مع الإنجليزية. أحببتُ الطلبة الكرد حباً لا مثيلَ له. مجتهدون مؤدبون وصبورون.

من طرائف أو غرائب ما صادفت هناك خلال تدريسي في الجامعة أني إكتشفتُ في أحد الأيام طالباً جالساً في الصفوف الوسطية مغمض العينين لا من كتاب أو دفتر أمامه. حسبته نائماً وطالباً مهملاً فطلبتُ منه مغادرة القاعة لأنها ليست المكان المناسب للنوم. غادر الطالب المسكين قاعة الدرس ممتثلاً للأمر. يا للمصيبة ! أخبرني الطلبة بعد المحاضرة أنَّ هذا الشاب طالب متفوق على جميع أقرانه، وإنه لا ينام خلال ساعة الدرس إنما عادته أن يغمض عينيه ويلتقط كل حرف يسمعه من الأستاذ، لذا لا يحتاج إلى دفتر وقلم لتدوين المحاضرة. بعد الإمتحان الأول فوجئت بصحة ودقة ما قال لي زملاء هذا الطالب الكردي.

إعتذرت له وقرّبته مني وأطلتُ في مديحه. تلكم ظاهرة لم أرَ لها مثيلاً في حياتي.

كانت السليمانية غنية بالفواكه والأسماك الممتازة التي تأتي من بحيرة سد دوكان. أتذكر أعناب وبطيخ الجبال يصل المدينة بارداً شديد البرودة. كنا قد زرنا سد دوكان ومجاري الزابين الأعلى والأسفل، كما تعرفنا على مدينتي كركوك وأربيل.

هل تتركني الحياة والأقدار سعيداً هانئاً لفترة طويلة ؟ كلاّ ثم كلاّ. ففي بدايات شهر أيلول وقع الإنقلاب الدموي الفاشي في شيلي وقُتل الرئيس المنتخب الدكتور ( سلفادور الليندي ). وفي فجر اليوم السادس من شهر أكتوبر ( تشرين الأول ) 1973 عبر الجيش المصري قناة السويس وحقق إنتصاراً مفاجئاً مذهلاً على الجيش الإسرائيلي في بعض مناطق صحراء سيناء. لكن سرعان ما تحول هذا النصر المفاجيء إلى كارثة بعد أن نجح الجيش الإسرائيلي بالعبور المضاد في منطقة ( الدفرسوار ) وتطويق جيش مصري أو فرقة منه تطويقاً محكماً ومنع الماء عنه. قبيل العيد دعوتُ شقيقتي وزوجها لزيارتنا وتمضيته معنا. كذلك كان قرار أخي جليل. في اليوم السادس والعشرين من شهر تشرين الأول

( أكتوبر ) 1973 تحركت شقيقتي من الحلة تجاه السليمانية، وتحرك أخي جليل من بغداد في نفس الإتجاه. وصل أخي بسيارته تصحبه عائلته عصر ذلكم اليوم المشؤوم. بُعيد وصوله بقليل طرق باب بيتي أحد الأساتذة وأخبرني أن سيارة قد إنقلبت في مدخل مدينة السليمانية وكانت شقيقتي وقرينها من بين راكبيها. هُرِعت إلى مستشفى المدينة برفقة هذا الأستاذ فوجدت صهرنا مصاباً بكسور. طلب مني السؤال عن مصير شقيقتي. سألت الطبيب فكانت الصاعقة. قال : البقاء في حياتك، إنها مسجاة في المشرحة. ذهبت إلى المشرحة وليت أمي لم تنجبني. رأيت شقيقتي وتاج عائلتنا قتيلةً مغطاة بعبائتها. لطمت وجهي وتهاويت على الأرض غير مصدّق ما أرى. جاءت لتقضي أيام العيد مع أخيها وأطفال أخيها في مدينة لم ترها من قبلُ فضيعت حياتها في مدخل هذه المدينة ليس بعيداً عن بيت أخيها. أعطاني أحد موظفي الجامعة حقيبتها اليدوية وما وجدوا في جيدها ومعصمها وأصابعها من ذهب وحلي وجواهر. جمعوها مشكورين خوفاً عليها من الضياع أو السرقة. فاجعة مروّعة ما زلت أرفض تصديقها. أي عيد يواجهني إذن ؟ عيدٌ بأية حالٍ عُدتَ يا عيدُ. إنقلب العيد إلى مأتمٍ وتعازٍ وفواتح. كانت الصبيّة ( عايدة )، إبنة أخي فيصل، معها شاركتها الحادث والمصيبة فأُصيبت بكسور متعددة بالغة في يديها وساقيها. كانت قد قضّت معنا الليلة الأخيرة في بغداد قبل مغادرتنا. وفي ساعة المغادرة إحتضنتني كما كانت تفعل والدتي معي، من ثم أجهشت في بكاء حاد. سألتها أن تكف عن البكاء إذ ليس له من داعٍ البتّة. فاجأتني بقولها : سوف لن أراك ثانيةً !! ضحكتُ، قلت لها سنكون في مدينة عراقية وعلى أرض عراقية ليست قصيّة عن بغداد، وسنتزاور حتماً، ماذا كنتِ ستقولين لو نفّذتُ عقدي مع جامعة الجزائر وغادرت العراق جملةً وتفصيلاً ؟؟ من أين أتتها نبوءة أنْ سوف لن تراني ثانيةً ؟؟ كيف ولماذا خطرت في بالها هذه الفكرة في ساعة الوداع ولحظةَ أنْ تأهبتُ لركوب السيارة ؟؟ كانت على حق، لم تَرَني بعد أن قامت بتوديعنا صبيحة الحادي والثلاثين من شهر آب 1973 أمام البيت في شارع المغرب في بغداد، لكني رأيتها… أجل، رأيتها قتيلةً وسط بركة من دم ترقد بإباء وجلال كإلهٍ من رخام أبيض في مستشفى مدينة السليمانية. كانت كالنائمة راضيةً مرضيةً فلقد نفّذت دعوتي وجاءت لزيارتنا وكادت أن تلتقينا ولكن حالت دون هذا اللقاء مسافة كيلومتر واحد لا أكثر. حلَّ أجلها في مدخل المدينة. رفضت مدينة السليمانية أنْ تستقبلَ شقيقتي حيّةً فإستقبلتها جثةً هامدة. إصطدمت السيارة التي كانت فيها مع سيارة عسكرية مقبلة من الإتجاه المعاكس فقُتِلَ بعض راكبيها وجُرح الباقون. أعددنا التابوت وأخبرنا الأهل في بغداد والحلة وتأهبنا لنقل جثمان شقيقتي لنواريها التراب في مقبرة العائلة في النجف. لم ينمْ أحدٌ في تلكم الليلة.

أبو طُبَرْ

آوائل خريف هذا العام 1973 ظهر على مسرح الأحداث في بغداد شبحُ جزّارٍ قاتل يفتك بالناس نياماً. لقد رُوِّعتْ بغداد بظاهرة ( أبو طبر ) الذي كان يقتل الناس بتهشيم رؤوسهم بآلة حادة تُسمّى في العراق ( طُبَرْ ) كذاك الذي يستخدمه القصّابون في تكسير عظام جزورهم. هل من عَلاقة تربط ناظم كزار بأبي طبر ؟؟ الجواب نعم ولكنْ في حالة واحدة. إذا كان ( أبو طبر ) عميلاً أو متعاوناً أو أحد عناصر الأمن خاصةً وإنه مولود في مسقط رأس مدير الأمن العام ناظم كزار : قرية ( أبو الجاسم ) التابعة إلى قضاء المسيب جنوب بغداد. ثم إنه كان مفوض شرطةٍ في مدينة الحلة حتى عام 1953 حيث فُصِل من وظيفته لأسباب تتعلق بالأمانة والنزاهة ونظافة اليد. كان يحمل نجمة واحدة في رقبته فقط. أجهزة الأمن البعثي ومخابراته تلتقط العناصر المشرّدة والمفصولة والعاطلة عن العمل ولا سيما أولئك الذين تتوفر فيهم شروط خاصة. فأبو طبر ( وإسمه الحقيقي دحّام كاظم الهضم / ثم أبدل إسمه الأول فأصبح حاتم ) من المحسوبين على الشرطة أولاً ثم إنه كان رياضياً طويل القامة مفتول العضل. ميزتان كبيرتان كان ناظم كزار وأجهزته الضاربة بأمس الحاجة إليهما. ثم إنه كان بحكم المشرّد والضائع في الحياة. بعد فصله من وظيفته لم يغادر مدينة الحلة إذ وفّر له صديقه الرياضي حساني كاظم الموسوي السكن والإقامة في داره مع الطعام والشراب. لم يدعْ وقته يمر سُدىً، فسجّل في ثانوية الحلة للبنين طالباً خارجياً ونجح في إمتحانات بكالوريا عام 1954. صغّر بطرقه الخاصة عمره ودخل كلية الطيران وإبتسمت الحياة له لكنه من طينة بعض البشر الذين لا يرتاحون للنعيم ولا ينسجمون مع الطبع السوي. في سنته الثانية في كلية الطيران خالف الآوامر فقاد طائرة التدريب خارج حدود مدينة بغداد حتى وصل بها قريته ( أبو الجاسم ) وشرع بالدوران والهبوط إلى مستويات منخفضة فإصطدمت الطائرة برؤوس النخيل وإستقرت هناك ولم يُصب بإذى. معجزة. فُصِل من الكلية ( عام 1956 ) فضاعت أخباره عني. كنت أعرفه منذ عام 1951 وكان يأتي بمعية أخي قحطان إلى بيتنا في الحلة حين كان مفوضَ شرطة. كان أخي كذلك رياضياً وكان وقتها ما زال طالباً في الكلية العسكرية. بعد إلقاء القبض عليه عام 1974 تم عرض لقاء مسجّل معه على شاشة التلفزيون العراقي. حين سُئل عن إسمه ووظيفته أو عمله ذكر إسمه المصحح ( حاتم كاظم ) ثم قال إنه كان مفوض شرطة ولم يقل مفصولاً. ثم أفاد كَذِباً إنه كان ضابطاً طياراً في سلاح الجو العراقي ولم يقلْ طالباً مفصولاً من كلية الطيران.

كيف دخل دحّام كاظم الهضم مدرسة المفوظين ؟ تلكم قصة طريفة سمعتها منه. أكمل دراسته المتوسطة في متوسطة المسيب عام 1950 فقرر المجازفة بالتقديم لمدرسة المفوظين. حدثت المعجزة في ساعة المقابلة. نوديَ على إسمه فدخل على لجنة المقابلة بقميص عتيق مفتوح الصدر يحتذي نعلاً. سألته لجنة المقابلة بعض الأسئلة التقليدية ثم سأله أحد أعضائها سؤالاً حيّر هذا الطالب البائس : سأله من هو واسطتك ( كعادة ذلك الزمان، لا بد من الوساطة والتوسيط لدخول مدرسة وكلية الشرطة فقد كانت حِكراً على طلبة راوة وعنه وسامراء والموصل ). لم يُكلّف وسيطاً وما كان يعرف وسيطاً أصلاً. فكّر بالأمر مليّاً ثم قال رافعاً ذراعه إلى الأعلى : واسطتي الله وأنتم. غرق أعضاء اللجنة بضحك هستيري طويل. أعادوا عليه السؤال فأعاد نفس الجواب. واصلوا الضحك ففقدَ صاحبُنا الأمل. متى كان اللهُ واسطةً للفقراء والمعدمين ؟! ما كانوا يصدقون ما يرون : شابٌ شاهق القامة قوي العضل، قروي فقير بائس من قرية أبي الجاسم الشيعية يأتي المقابلةَ بقميص مهتريء ونعلين أجربين يروم الدخول بدون ظهير أو نصير أو وساطة في مدرسة مخصصة أصلاً لفئات معينة من الشعب العراقي. جاءت المفاجأة الكبرى إذ سمع من جهاز الراديو نبأ قبوله في مدرسة المفوظين. هكذا أصبح ( دحّام كاظم الهضم / أبو طبر لاحقاً ) الفقير والطالب اليساري مفوضاً في سلك الشرطة العراقية. من مفارقات وغرابة طبيعة وسلوك هذا الرجل إنه كان أثناء خدمته في شرطة الحلة يقضي ساعات خفاراته الليلية يأكل ويسكر مجاناً في دار سرية مخصصة للقمار. حاميها حراميها. دخل مدرسةً لمفوضي الشرطة لم يدخلها قبله شخص مثله أبداً. أساء إلى وظيفته في خدمته كمفوض شرطة ففُصِل. خالف تعليمات سلاح الجو العراقي فطُرِد ليجدَ نفسه مشرداً ضائعاً. قُبيل إلقاء القبض عليه، رأيته أوائل عام 1974 في شارع السعدون في قلب بغداد. وبعد السلام والتحيات وتبادل الأشواق سألته عن وضعه وماذا يعمل وأين. جاءني جوابه حرفياً : على حطّة إيدك… أتاجر بالسيارات بين ألمانيا والكويت. سألني عن أخي قحطان ( صديقه القديم ) وأين يسكن ؟ أعطيته بعض المعلومات العامة غير الدقيقة من قبيل إنه ما زال ضابطاً في الجيش ويسكن وعائلته في منطقة الكرادة الشرقية من بغداد. رأيته صباح اليوم التالي وفي المكان نفسه فلم أشأ أن ألتقيه فضيّعت نفسي وتواريت عنه ظناً مني إنه ـ وهو العاطل عن العمل ـ قد يطلب مني مساعدة نقدية ما كنت قادراً ولا مستعداً لتقديمها. بعد ذلك بفترة قصيرة تم إكتشافه وإلقاء القبض عليه. يا لغرائب المصادفات !! أنا ألتقي ( أبا طبر ) في قلب بغداد دون أن يخطر في بال بشرٍ إنه هو هذا الإنسان أبو طبر بعينه. عندذاك أدركت سر إهتمامه بمعرفة عنوان سكن أخي قحطان. لربما وضعه في قائمة ضحاياه. أما أنا فقد كنتُ يومها بعيداً عنه وعن بغداد، جئتها من السليمانية لأقضّي عطلة نصف السنة. في المقابلة التلفزيونية التي أُجريت معه قال إنه بسبب ما عانى في الحياة من فشل ومصائب مستعدٌ لشرب دماء البشر. قال ذلك بالحرف الواحد. بعد محاكمته أُعدِم مع زوجه وشقيقيه.

 

الحرب في كردستان / أوائل 1974

برزت ظاهرة ( أبو طبر ) بعد هبّة ناظم كزار الفاشلة، وسبقت مباشرةً الأحداث الجسام

التي عصفت بكردستان العراق حيث فرض نظام حكم البعث الحرب على الكرد وكنتُ شاهد أحداثها دقيقةً بدقيقة. بدأت الغيوم السود ونُذّر الحرب تتجمع في سماء كردستان بعد نهاية العطلة الربيعية ومباشرتنا الدوام المعتاد. إزداد الوضع توتراً بعد أن منع محافظ السليمانية القطعات العسكرية المتمركزة في وحول مدينة السليمانية من إجراء تدريبات ومناورات عسكرية بإعتبارها تتنافى مع صفاء الضمائر وحسن النوايا وتمثل إستفزازاً وتهديداً لا مبررَ ولا من ضرورة لهما في زمن السلم. في نفس الوقت زار آمر أحد أفواج الجيش العراقي معاونَ عميد كلية العلوم في مكتبه في الجامعة زيارة شخصية، فقد كانا أصدقاء أو معارفَ قدامى ومن مدينة واحدة. دخل أحد ممثلي إتحاد طلبة كردستان مكتب معاون العميد وطلب من الضابط مغادرة الجامعة على الفور. إمتثل الضابط للأمر وغادر الجامعة على عجل. لسبب ما جرت مشادة كلامية بين طالب بعثي وعميد كلية الزراعة الدكتور كمال خوشناو.لم يتمالك الدكتور نفسه فصفع الطالبَ وطلب تفتيشه خشيةَ أن يكون حاملاً مسدساً. بعد بضعة أيام طلبت مديرية الأمن والأجهزة البعثية المتفرعة منها أو المندمجة فيها، طلبت من الغالبية العظمى من الأساتذة العرب ترك الجامعة والمدينة على عجل والتوجه صوب بغداد أو سواها من المدن العراقية الأخرى البعيدة عن كردستان. لم يخبرني أحدٌ بأمر النزوح والمغادرة. ثم إني كنتُ من جانبي ملتزماً بالبقاء في المدينة، لذا لم أغادر أسوةً بمن غادر. كانت لي ظروفي الخاصة. عمّت الفوضى وتوقفت الدراسة في الجامعة. مع نزوح العرب جنوباً بعيداً عن مدينة السليمانية حدثت موجة نزوح كبرى معاكسة قام بها الرجال الكرد متجهين شمالاً وشرقاً للتحصن في الجبال الشاهقة والمنيعة. فلقد راجت شائعات مفادها أنَّ حكومة البعث والجيش العراقي بصدد القضاء على الرجال الكرد قاطبةً. بقي في مدينة السليمانية الشيوخ والنساء والأطفال في وضع بائس وأقفرت شوارع ومقاهي المدينة التي كانت تعج بالحركة وشتى أصناف النشاط التجاري والعمراني والتعليمي والسياحي. أصبحت بين عشية وضحاها مدينة أشباح خالية هادئة نهاراً لكنها تتحول ليلاً إلى جحيم لا يطاق. إطلاق نار كثيف متواصل يأتي من الجبال وترد عليه مدافع ودبابات الجيش العراقي. أزيز قذائف المدفعية وأصوات إنفجارات قريبة من منزلي تهز جدران البيوت هزّاً. صار النوم ليلاً شبه مستحيل. تركنا بيتنا وأثاثنا وإنتقلنا للسكن في فندق السلام في قلب المدينة. لا أدري من كلّف مدرس كلية الزراعة البصري الأصل وخريّج بعض الجامعات البلغارية الدكتور محمد عبد الله النجم ( رجل مُستبعِث ـ مُستكرِد / زوجه سيدة كردية من أهالي السليمانية ) أن يقوم بمهام رئيس جامعة السليمانية التي تركها رئيسها الدكتور حكمت توفيق فكرت وعمداء كلياتها العرب ورؤساء الأقسام. عرض عليَ الدكتور محمد عبد الله النجم أن أكون عميداً لكلية العلوم بالوكالة فوافقت بعد إستشارة من يهمهم أمري ومتطلبات بقائي. أصدر أمراً جامعياً فباشرت مهمات العمادة (( رقم الأمر 3293 وتأريخه التاسع من شهر نيسان 1974 )). عمادة بدون طلبة وأساتذة أو دوام. تمشية الكتب الصادرة والواردة فقط. في واحدة من مكالماتي التلفونية مع أخي قحطان الذي كان وقتذاك ضابطاً في وزارة الدفاع، إقترح عليَّ مراجعة صديقه وزميله في الجيش قائد حامية السليمانية فيما لو تطلب الأمر مساعدته أو حماية وحداته العسكرية. زرت الرجل في مقره الواقع في وسط مدينة السليمانية وعرّفته بنفسي ثم طلبت منه إرسال وحدة عسكرية صغيرة لحماية بنايات جامعة السليمانية وخاصة مختبرات ومخازن قسم الكيمياء. في هذه المخازن كما هو معروف مواد كيميائية قابلة للإشتعال السريع وأخرى متفجّرة وغيرها سامّة. وكانت القذائف تتساقط قريباً من هذه المخازن ليلاً. قال الضابط إنَّ المدينة تحاصرها قوات

( البيشمه ركه )، وإنَّ قيادة الفرقة في كركوك لا تستطيع إرسال تعزيزات لفك الحصار المضروب على المدينة لأنَّ طريق كركوك ـ السليمانية واقع في قبضة قوات المقاتلين الكرد ولا سيما قسم الطريق الصاعد عالياً قريباً من مدخل السليمانية والمحصّن بجبال صخرية شديدة الوعورة. وعد آمر الموقع أن يدرس الموضوع جيداً قبل إتخاذ القرار المناسب. بعد يومين فقط زارني في مكتب عمادة كلية العلوم ضابط شاب برتبة ملازم أول فأدى لي التحية العسكرية ـ أنا الرجل المدني الذي لم يخدم الجيش يوماً في حياته ـ ثم قال : حضرتُ ومعي فصيلٌ من الجنود سأوزعه على أكثر النقاط حساسيةً. عرض عليَّ أن أرافقه للقيام بالمهمة. إتخذ الجُندُ مواقعهم في مداخل الجامعة وعلى سقوف بعض بناياتها العالية. بهذا الإجراء سلمت الجامعة من أعمال النهب والتخريب المتوقعة في تلكم الظروف. بعد أن أنهى الضابط مهمته أخذ مفاتيح الجامعة وأبواب الكليات من الحارس الكردي المسؤول الذي كان وظلَّ أميناً على سلامة بنايات وممتلكات الجامعة. لم يترك غالبية عمّال وفرّاشي الجامعة من الأخوة الكرد وظائفهم ومهماتهم أبداً. كانوا حريصين على الدوام مواظبين عليه كدأبهم اليومي قبل نشوب الحرب.

لا وجود للأساتذة الكرد في الجامعة عدا بعض المعيدات من بنات السليمانية. أما الأساتذة العرب فكانوا يأتون رأس كل شهر جماعاتٍ جماعات لإستلام رواتبهم ومغادرة المدينة فوراً وبأسرع ما يستطيعون.كانوا خائفين على حياتهم حتى أنَّ أحدهم طلب مني إستلام راتبه الشهري وكالةً وإعفاءه من المجيء الشهري لإستلامه.

إنكمشت عناصر البعث وأجهزته الأمنية والمخابراتية تحت هذه الظروف فأحجمت عن الحركة ليلاً ونهاراً ولم تجرؤ على إرتياد أسواق المدينة شبه المعطّلة إلاّ في النادر من الأحوال.كان أبرز هذه العناصر وأكثرها خبثاً ونذالةً معيد في كلية الزراعة يُدعى ( عوده فنيخر ) ومعلّم في معهد الإدارة والإقتصاد إسمه ( سامي عدّاي / بصراوي الأصل ). كذلك كانت الحركة ليلاً محضورةً على وحدات الجيش العراقي. حدث في إحدى الليالي أن حاصرت بعض عناصر ( البيشمه ركه ) بيت مفوض شرطة كردي الأصل من المتعاونين مع سلطة البعث. خابرَ مركز الشرطة طالباً المساعدة فلم يجرؤ أحدٌ على مغادرة المركز لفك الحصار عنه وإنقاذه من الموت. تسلّق المقاتلون جدران البيت ثم قتلوه أمام عائلته دون أن يبدي أية مقاومة. يبدو أنه لم يكن مسموحاً له أن يحمل سلاحاً دفاعاً عن نفسه.

كان الوضع في المدينة صعباً لكنه ما كان شديد الخطورة عدا بعض الإستثناءات. إغتال رجل من المقاتلين الكرد شيوعياً بارزاً تركماني الأصل من كركوك إسمه ( جودت خورشيد ) حين كان ماشياً مع قرينته نهاراً في أحد شوارع السليمانية.كان الحزب الشيوعي حليفاً لحزب البعث الحاكم بالجبهة الوطنية والقومية التقدمية… كما كانت تُسمّى يومذاك. أُلقي القبض فيما بعد على القاتل وإستطاعت زوجة القتيل جودت خورشيد تشخيصه بدقة فنُفِذ فيه حكم الإعدام فوراً. شاهدت مرةً وأنا على سطح فندق السلام العالي حادث إصابة طائرة مروحية وإشتعال النيران فيها فوق مرتفعات جبل

( كويشه ) الشاهقة أثناء مطاردتها لبعض المقاتلين المحصنين في شعاب تلك السلاسل الجبلية المنيعة. ومن على سطح هذا الفندق كنتُ أتابع يومياً قبيل غروب الشمس قذائف مدفعية المقاتلين الكرد تتساقط من قمم الجبال على معسكر الجيش الواقع في ضواحي مدينة السليمانية فتشتعل النيران في الخيام وبعض سيارات النقل العسكرية الكبيرة وحاملات الجنود. حين تأتي طائرات ( الميغ ) الروسية من قاعدتها في كركوك لإسكات المدافع ومعالجة الموقف يكون قد حلَّ الظلامُ وأُخفيت المدافع. تدور فوق قمم الجبال الشاهقة والمنيعة لبعض الوقت فلا ترى أهدافاً تستحق القصف فتعود بالخيبة إلى كركوك دون أن تنفّذ مهماتٍ قتالية. كان هذا المشهد يتكرر يومياً فتنتعش الآمال وترتفع معنويات الأخوة الكرد فيزداد البعث شراسةً ولؤماً وعدوانية لا في سوح المعارك وقتال المواجهة ولكن مع المدنيين العُزّل.

 

غدر البعثيين وسفالة عناصر أمنهم ومخابراتهم

دهست عن عمد وسابق إصرار سيارةُ جيب عسكرية رجلاً من السليمانية كان يبيع الرقي محمولاً في عربة يدفعها بيديه، يدور ببضاعته على البيوت فقتلته على الفور. كنتُ شاهدَ عيانٍ على فضاعة هذا الحادث. أتته السيارة من خلفه بأقصى سرعة فإقتلعنه من الأرض قلعاً. طار جسده أمام عيني في الفضاء على أرتفاع مترين ثم هوى على الأرض جثةً هامدة. من يعترض ومن يتجاسر أن يفتح فمه بالشكوى ولمن ؟؟

لماذا يقتل البعثيون رجلاً مسالماً فقيراً لم يدخل ضدهم حرباً ولم يحمل السلاح ؟؟ أي خطر يحمل بائع رقّي لنظامٍ فاشي مدجج بالسلاح حصّن نفسه بالإرتباط مع بعض القوى السياسية العراقية الأخرى ليخونَ فينقضَ إتفاقيةً أبرمها مع قيادة الشعب الكردي في شهر آذارَ 1970 ؟؟

كان البعث حزباً وحكومةً ونظاماً مهزوزاً ومذعوراً وغيَر واثق من نتائج حربه الظالمة على الشعب العراقي الكردي. إمتنع الإتحاد السوفياتي عن إمداده بما كان يطلب من أسلحة حديثة متطورة. علاقاته مح الحزب الحليف كانت مضطربة ولم تقم أصلاً على مباديء وأهداف واضحة وسليمة. ما كانت علاقةُ ندٍّ لند، كانت علاقة ذئب دموي شرس يعاني من جوع أبدي بأرنب مسالم وديع.كانت من جانب حزب البعث ونظام الحكم الإستبدادي مناورة ( تاكتيكية ) وإئتلاف مرحلي مصلحي لا دوام له ولا ثبات. إئتلاف جبهوي ضعيف البُنى مهلهل الأواصر سيتخلى البعث عنه دون خجل أو حياء حين يحقق النصر العسكري على الكرد. رغم ذلك وقف الشيوعيون في كردستان في صف واحد مع حزب البعث وساندوه وقدموا له خدمات كثيرة منوعة. كان الرأي السائد يومذاك أنَّ حركة وقيادة الملا مصطفى برزاني إنما هي حركة مشبوهة ومرتبطة بشاه إيران ودوائر حلف بغداد وإسرائيل. لذا فإنها ـ حسب ذلكم الزعم ـ حركة غير وطنية ولا يمكن إدراجها في قائمة حركات التحرر الوطني. أذكر حادثة أخرى تفضح سلوك وعقلية عناصر حزب البعث وإستعدادهم لخيانة الصديق والحليف. داهمت عناصر من الشرطة البعثية وبعض رجال أمنهم دار الناشط الشيوعي في مجال نقابة المعلمين والمربي السيد ( أحمد ). إعتقلته وقادته إلى مركز الشرطة بشكل مهين بدعوى التحقيق معه في حادث قتل لا ناقة له فيه ولا جمل. في حملة إنتخابات نقابة المعلمين للعام 1974 نافست القائمة الكردية قائمة موحدة تضم عناصر بعثية وأخرى شيوعية. مثّل البعثيين سواء في المفاوضات مع قادة القائمة الكردية أو الإجتماعات التمهيدية المنوعة وعلى شتى الصُعُد المعيد في كلية الزراعة ومسؤول الأمن في الجامعة المدعو ( عودة فنيخر ).كان هذا يخشى مغادرة مقره في مركز الشرطة إلاّ تحت حماية رفاق الجبهة الوطنية. لفتَ إنتباهي شدة حرص المربي الفاضل السيد ( أحمد ) على سلامة ( عودة فنيخر ) إذ كان يحيط به أينما كنا وحيث سرنا من كافة الجهات خوفاً عليه من إحتمالات الإختطاف أو الإعتداء أو الإغتيال التي لم يحدث شيء منها على الأطلاق. كان له بمثابة الحزام الأمني. قام أحمد بكل ذلك بتضحية وإخلاص يدفعه الحرص على سلامة ودوام ومتانة بناء الجبهة الوطنية والوفاء لحليف غدّار لا يعرف أخلاق السياسة ولا يلتزم بعهد أو إتفاق. رد الحليف البعثي هذا الجميل وهذه التضحيات بإعتقال حليفهم أحمد وجرجرته من بيته إلى مركز الشرطة بشكل لا يليق بإنسان مثقف يمارس مهنة التعليم في مدينته ومسقط رأسه. وفعلوا معي ما هو أسوأ من ذلك. أتاني يوماً شاب وقدم لي رسالة مكتوبة بخط يده. قرأتها فذُهِلت !! قرأت فيها غزلاً وتخنثاً. قلت لهذا الخنيث المدسوس سأفضحك أمام معارفك وأصدقائك. إنهار فتهاوى. قبّل يدي أن لا أفعل ذلك. قلت حسناً، ولكن بشرط أن تعترف لي وتفضح الذي أو الذين رسموا لك هذا المخطط الدنيء. قال على الفور : إنه (( عودة فنيخر ))… شرطي الأمن في جامعة السليمانية وأحد عناصر قائمة الجبهة الوطنية لإنتخابات نقابة المعلمين. طلب هذا الشرطي منه أن يكتب الرسالة بنسختين، أخذ منه واحدة وطلب منه أن يحمل لي الثانية !! كان هذا شرط أجهزة البعث للسماح لهذا الشاب في الإنتقال إلى بغداد حيث أهله ومسقط رأسه. كان موظفاً صحياً ليس إلاّ. أحتفظُ بإسمه الكامل ومنطقة إقامته في بغداد. كان صديقاً أو مرشَّحاً لعضوية الحزب الشيوعي، عميلاً وجاسوساً مندسّاً بتوجيه وتخطيط أجهزة أمن ومخابرات حزب البعث

( الحليف ) !!! هكذا كان حزب البعث يفسّر ويترجم العلاقات مع الحلفاء. دس وتشويه وإفتراء وتسقيط وشراء ذمم، ثم إغتيالات ثم حروب وغزو وسموم وأسلحة كيميائية محرَّمة دولياً ولكنْ، إنقلب أخيراً السحرُ على الساحر.

مثالٌ آخر على دس وخسّة نظام وأجهزة حزب البعث وتآمر أعضائه وتورطهم في أحط الأفعال. بعد مباشرتي العمل في جامعة السليمانية بفترة قصيرة، إتصل بي مُعيد في قسم البايولوجي ورجاني أن أتكفل بعثته للدراسة في رومانيا.لم أعتذر.لم أقلْ له عليَّ أن أستشير زوجتي فالتبعات السيئة لمثل هذه الأمور تطالنا نحن الإثنين وتؤثر على أطفالنا. لم أقل له إنني متورط مع شخصين آخرين في كفالة صديق يدرس في أمريكا مقدارها سبعة آلاف ديناراً. لم أقل له إنَّ كفالاتٍ بمبالغ كبيرة من هذا النوع لشخص يترك العراق خمسة أعوامٍ للدراسة لا يقوم بها عادةً إلاّ الأهل والأعمام وباقي الأقارب. وإذا لم يكن لهؤلاء موارد كافية فيمكنهم رهن بستانهم أو دارهم أو بعض عقاراتهم. ذهبنا إلى المحكمة لتصديق عقد كفالته البالغة خمسة آلاف ديناراً. كنتُ الكافل الوحيد.لم يصدق الحاكم الأمر فقال المفروض أن يتكفل صاحبك شخصان ضامنان في الأقل. قلت له أستاذ : إنَّ هذا الشاب سوف يدرس في رومانيا. ولو كانت بعثته إلى أمريكا مثلاً لما كفلته. سوف لن يبقى هذا الشخص في رومانيا مهما كانت نتائج بعثته ودراسته. سوف يعود معيداً في جامعة السليمانية إنْ فشل ولم يحقق المطلوب منه. إبتسم الحاكم المؤدب الوقور والوسيم إبن السليمانية على مضض ووضع أمامنا سجل العقود فوقّعت على خمسة آلاف دينارٍ لأكفل وحدي شخصاً ما سبق وأن رأيته في حياتي ولا أعرف من أبوه ومن أخوته في محافظة ديالى. المهم، غادر السيد ( شريف حكيم ) الجامعة والعراق لدراسة الدكتوراه في بعض الجامعات الرومانية ثم وصلتني أخباره بعد فترة قصيرة : إنقلب إذ وضع قدميه على الأرض الرومانية بعثياً ناشطاً في صفوف الإتحاد الوطني البعثي هناك !!! كان محسوباً على الحزب الشيوعي حين أتاني متضرعاً لأتكفل بعثته فوافقت بكل ما أحمل من عفوية ومثاليات ودون أن أتحرى أمره جيداً. يا ما حصلت فواجع لبعض من تكفل الآخرين فتحملوا أسوأ العواقب المالية ودفعوا أثمان العقود التي وقّعوها، وفي رأسي أنا أمثلة عديدة أعرفها جيداً لبعض المتورطين من أصدقائي ومعارفي. كنتُ مأخوذاً بأجواء جامعة ومدينة السليمانية التي بهرتني، ثم كنتُ واقعاً تحت أحلام وآمال وسحر إسم الجبهة الوطنية السام والزائف مع حزب البعث. من هذين العاملين جاءت براءتي وعفويتي فقبلتُ التوقيع على أمر لا تُعرفُ عواقبه. وقّعتُ في المحكمة في مدينة السليمانية عقدَ كفالة بمبلغ خمسة آلاف دينار لشخص لا أعرفه سيمضّي خمسة أعوام خارج العراق، في حين رفض صديق قديم لي أن يوقع على ورقة ضماناً شكلياً في دائرة السفر والجنسية في بغداد لضمان عودتي من سفرة قصيرة لي خارج العراق وبمبلغ مائة دينار فقط. ماذا أُسمّي نفسي ؟ على أية حال، أكمل هذا الرجل دراسته في رومانيا وعاد للعمل ثانيةً في جامعة السليمانية حسب ما وصلني من معلومات. ما كنتُ وقتَ رجوعه إلىالعراق هناك، لذا إستحال أمر مراجعة المحكمة وطلب إسقاط الكفالة لأنَّ الكفيل قد أدى شروطها كاملة : نال الشهادة وآب إلى جامعته وبلده فغدت الكفالة باطلة على حد علمي… ولست خبيراً ولا محامياً. هل يذكر، تُرى، هذا الشخص جميلي وهل سيرده لي إذا ما ألجأتني الحاجةُ يوماً إليه في أمر مماثل مثلاً ؟! أشكُّ كثيراً في ذلك. كان هو الآخر عميلاً مندَّساً لحزب البعث.

لم يستطع البعث وحكومته من حسم الحرب في كردستان سريعاً كما رسموا وتوقعوا. وكانت وحدات الجيش العراقي في وضع بائس ومعنويات متدهورة جراء تزايد سقوط عدد القتلى من الجنود. كان التخبط والفوضى بين العسكر شديدي الوضوح. فمثلاً إصطدمت أمامي مدرّعة بشاحنة كبيرة تحمل جنوداً فسقط جنديان تحت عجلات الشاحنة فأصيبا بكسور بليغة وتحطم القفص الصدري لأحدهما تحطماً كاملاً، ولا أدري أماتا بعدئذٍ أم سُرّحا من الجيش عاجزين عن مواصلة الخدمة فيه. بشر يتحطم كما الزجاج والخزف أو يلفظ آخر أنفاسه أمام عيني. لقد ألفتُ هذه المشاهد المروِّعة حيث كنتُ أرى من خلال شباك غرفتنا في فندق السلام فجر كل يومٍ الدروع والمصفحات العسكرية تعود من بعض جبهات القتال محمّلةً بجثث الجنود القتلى. شيء لا يُصدّق ولا ترتضيه الطبيعة السوية. خُلِق الإنسانُ ليعيش أَجَله لا ليموتَ في عمر الشباب من أجل قضية لا يؤمن بها أصلاً. يموت ليبقى الحاكم المتعسف والظالم حاكماً فرداً مستبداً لأطول فترة ممكنة. يحقق أهدافه المشبوهة على جسور من أجساد وعظام وجماجم الآخرين.

 

أنشطة إجتماعية

ما كانت حياتي مقصورة على الدوام في الجامعة ثم الرجوع إلى فندق السلام. كان لديَّ الكثير من الوقت لأزور الأصدقاء وأطمئن على أحوالهم. خاصة وقد كنا أرسلنا طفلينا إلى بغداد ليكونا تحت رعاية أخي جليل وقرينته السيدة فوزية خليل العبيدي. كان قراري وزوجتي إننا قد نموت أو نُقتل في طاحونة الحرب وأقدارها العمياء فليبقَ أطفالنا بعدنا أحياءً. ثم أقفلنا دارنا وأرسلنا الأثاث إلى بغداد. حين أخبرت صاحب البيت وجارنا الشهم والوفي ( كاكه حمه أمين، أبو شكار ) بقرار تخلية الدار تأثرَّ كثيراً وإقترح عليَّ أن لا أفعلَ ذلك. قال لا خطرَ عليكم أبداً. قال إننا نعرف أعداءنا جيداً. قال إنني مسؤول عن حياتكم وسلامتكم وإنما أنتم أمانة هنا (( رفع كفه اليمنى ووضعها على رقبته )). كان موقفاً مؤثراً جداً لن أنساه. كنتُ أترك زوجتي معهم حين تضطرني ظروف وظيفتي السفر إلى بغداد لقضاء بعض الأمور الرسمية. كانت زوجه بمثابة الأخت لزوجتي ونعم الجارة والصديقة وكانت مثالاً للخلق والكرم والشهامة ثم جمال الصورة. كيف ننسى هذا الشعب ؟ كان كاكه حمه أمين يحب السيارات الأمريكية وخاصة الشيفروليه. فلقد دأب على تبديل واحدة بأخرى وما كان بيته ليخلو من سيارة. مع ذلك لاحظت أنَّ ولده الصبي ( شكار ) يذهب إلى مدرسته البعيدة مشياً على قدميه. حين عاتبته في هذا الأمر أجابني : كاكه خلّي يتعلّم… خلّي يصير رجال… أنا كذلك كنتُ أذهب لمدرستي ماشياً. خلّي يصير رجال. سألته مرّةً هل يعرف محلاً في السليمانية يبيع الرز العنبر ؟ قال متهكماً : كاكه شنو عنبر شنو بطيخ…جرّبْ وأكلْ تمّن السليمانية. أتمنى اليوم أن أرى هذه العائلة التي أحببناها من أعماق القلب. كيف السبيل إلى السليمانية ؟؟

كنت أقوم بزيارة صديقي وزميلي الدكتور محسن البيرماني وقد أقام ولم يغادر السليمانية كما فعل الآخرون. كانت فرحته وعائلته بهذه الزيارات لا حدودَ لها. وكنت أتناول معهم ما كانت السيدة أم أياد تطهو من أطعمة متوفرة ولا سيّما ( مرقة ) الفاصولياء الجافة مع رز السليمانية. أتذكر من أطفالهم أياد الكبير وذُلفاء وغَسَق ولا أتذكر أسماء الباقين. سمعت أخيراً إنه والبعض من أولاده في كندا.

كما كنا نزور عائلة من العوائل المسيحية القليلة في السليمانية. إنها عائلة الصديق المعلم

( نوفل ). كنت أرتاح كثيراً لحميمية ودفء الجو العائلي في بيت نوفل ووالديه وشقيقاته الطيبات. كانت الفتيات يمارسن الخياطة وصغراهنَّ كانت تعمل في مدرسة الراهبات. كيف السبيل لرؤياهم ؟ العائلة الأخرى التي كنا نزورُ هي عائلة ( هجينة ) : الزوج الصديق ( كاكه عثمان ) كردي من السليمانية يعملُ مُدرِّساً في ثانوية الصناعة، أما زوجه ( نجاة ) فإنها فتاة عربية من مدينة الحلة. وكانت وجبتي المفضَّلة لديهما هي ( البامياء ) ورز السليمانية. كانت هذه كلها تتم في إطار الزيارات العائلية. فلقد كانت لديَّ زيارات أخرى أقوم بها منفرداً للصديق عميد كلية التربية والآداب الدكتور محمد سعيد، وزيارت أُخَرَ للمربي الفاضل وأحد الوجوه البارزة بين المعلمين ( الشيخ أحمد بَرَزنجي ). نشاطات سلمية إجتماعية رغم أنف الحرب، ورغم أنف القذائف المتبادلة التي كانت تحيل ليل المدينة إلى جحيم من الشرر والضوضاء وأصوات الإنفجارات.

سفرة إلى بغداد

ركبتُ ورئيس الجامعة المُكلَّف السيارة الفولفو السويدية الخضراء اللون المخصصة أصلاً لمن يشغل منصب رئيس جامعة السليمانية، متجهين إلى العاصمة بغداد لعرض شؤون ومشاكل الجامعة على وزير التعليم العالي والبحث العلمي السيد ( هشام الشاوي ). كان ذلك آواخر شهر نيسان حيث الربيع وخضرة وزهور جبال ووديان كردستان. قصدنا الوزراة صباح اليوم التالي. دخل السكرتير على الوزير وأخبره بحضورنا. قابل صاحبي الدكتور محمد عبد الله النجم لكنه لم يقابلني. أحالني على مدير عام الشؤون الثقافية الطبيب البيطري الدكتور جواد العبيدي… حسب أصول مسلسل المقابلات الرسمية. العميد يقابل مديراً عاماً ورئيس الجامعة يقابل الوزير. إستقبلني الدكتور العبيدي في مكتبه في وزارة التعليم العالي والبحث العلمي بودٍ وحرارة ثم طلب مني حسب أمر الوزير أن أكتب تقريراً مفصّلاً عن وضع الجامعة ومدينة السليمانية. كتبت التقرير مساء ذلكم اليوم وقدمته له حسب الإتفاق صباح اليوم التالي. أنجزنا مهماتنا مع الوزارة فإقترح زميلي الدكتور محمد عبد الله النجم أن نزور مساء ذلك اليوم رئيس الجامعة الذي تركها هارباً إلى بغداد. زرنا بيت الدكتور ( حكمت توفيق فكرت ) في حي الجامعة فإستقبلنا في حديقة منزله. وجدناه يُدخّن ( البايب ) متعباً شاحب الوجه ولديه متاعب في القلب. سألنا عن وضع الجامعة وأحوال مدينة السليمانية فشرحنا له الأوضاع كما نراها كل يوم وساعة. في لحظة مغادرتنا حديقة داره طلب منا طلباً غاية في الغرابة : أنْ نهتم بسيارة رئاسة جامعة السليمانية الفولفو التي كانت برسم خدمته لبضعة أعوام خلتْ. قال بالحرف الواحد ( ديروا بالكم عالسيارة. لا تستعملوها ). لم يعدْ الدكتور حكمت إلى رئاسة الجامعة حتى بعد أن وضعت الحربُ أوزارها. نقل خدماته أستاذاً في كلية الصيدلة / جامعة بغداد، رغم كونه كردياً وأصل عائلته من مدينة السليمانية.

في شهر مايس 1974 أحرز الجيش العراقي إنتصاراتٍ على الأرض فحرر مناطق كثيرة كانت تحت سيطرة المقاتلين الكرد. ثم سيطر على طريق السليمانية ـ كركوك فأصبح آمناً سالكاً. كما إحتلّت مفارز منه العديد من قمم الجبال العالية التي تشكل الحدود مع إيران. كنا نرى رأي العين عمليات إنزال الجنود والمغاوير من الطائرات المروحية في حركة دائبة مستمرة ليلاً ونهاراً. فراغ سياسي في كردستان وإنحسار مد حركة التحرر القومية الكردية تسببا في إنهيار سد المقاومة المنيع فنجحت أجهزة أمن ومخابرات حزب البعث في إختراق الجبهة الكردية المدنية فكسبت العديد من الشخصيات الكردية وبعض رؤساء العشائر. بل وإستطاعت أن تؤسس حزباً كردياً ـ بعثياً بقيادة شخص تعرفه السليمانية بإسم ( ملاّ ماطور ). في هذا المزاج والمناخ تمَّ تعيين السيد ( … بشدري ) محافظاً للسليمانية و الدكتور ( أُوميد مدحت ) رئيساً للصحة وموظفين آخرينَ كباراً من الشخصيات الكردية الموالية لحزب البعث.

المعهد الطبي الفني في السليمانية

في ضوء هذه التطورات العسكرية وتأمين طريق كركوك ـ السليمانية وزوال خطر الثوار الكرد الظاهري أجرت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في بغداد تغييرات جوهرية في هياكل ومفاصل الجامعة الأساسية. ففي اليوم الثاني والعشرين من شهر مايس 1974 صدرت الأوامر الوزارية بتعيين الدكتور طارق حسن العمادي رئيساً لجامعة السليمانية.

والدكتور ( البعثي المستكرد ) محمد عبد الله النجم نائباً لرئيس الجامعة. والدكتور خسرو شالي ( إبن السليمانية ) عميداً لكلية الزراعة. وصديقي الدكتور محمد سعيد ( من السليمانية ) عميداً لكلية التربية والآداب. والدكتور هادي كاظم عوض ( رأس الهاربين إلى بغداد ) عميداً لكلية العلوم. أما أنا ـ الرجل الذي تحمّل المسؤولية في ظروف بالغة الدقة والخطورة، ثبتَ ولم يهربْ وأنقذ الجامعة من إحتمالات التدمير أو النهب ـ فكان نصيبي إبعادي من عمادة كلية العلوم التي تحمّلت تبعاتها ومسؤولياتها بالوكالة. كان نصيبي تعييني مديراً للمعهد الطبي الفني التابع إلى جامعة السليمانية حسب كتاب وزارة التعليم العالي والبحث العلمي المرقَّم (( س/ 1096 بتأريخ الأول من حزيران 1974 )). مدير بدون مبنى لإدارة المعهد.كانت إدارته في السابق تتبع عمادة كلية العلوم، ويتقاضى العميد مخصصات مُجزية لقاء هذه المسؤولية الإضافية. ذلكم أمرٌ غير مسبوق ولا مبررَ له إلاّ نهب المزيد من الأموال على أيدي حرامية محترفين من أمثال هادي كاظم عوض وأضرابه. الموظفان الوحيدان المحسوبان على ملاك المعهد آنئذٍ كاتب كردي من كركوك ومعيد شاب يمتُّ بصلة قربى لرئيس الجامعة ( إبن شقيقته ) هو السيد هشام، وكان يعيش في بيت خاله. كلّفتُ صديقي سعدي برزنجي ( أخذ شهادة الدكتوراه فيما بعد من فرنسا ) الذي كان مديرَ الدائرة القانونية في رئاسة الجامعة فوجد لي داراً حديثة جميلة البناء إتخذتها مركزاً لإدارة شؤون المعهد الطبي الفني. إتفقتُ وصاحب الدار على إيجار سنوي مقداره 300 ديناراً تم دفعه مقدما ونقداً من الميزانية ( أو الموازنة ) المخصصة للمعهد. أخذت موافقة رئيس مؤسسة المعاهد الفنية السيد ( محمد عبد ) لصرف المبالغ اللازمة لتجهيز المركز بأثاث حديث كان لحسن الحظ متوفراً في السليمانية. جهزت الإدارة بخط تلفوني واحد طلبتُ نصبه في غرفة كاكا محمد كاتب المعهد. كان المعهد بحاجة ماسّة لبعض العمال والمستخدمين فقمت بتعيين حارسٍ لمبنى الإدارة ومستخدمة واحدة وفرّاش شاب يتيم جاءتني والدته العجوز تتوسط لتعيينه، ثم سائق لسيارة المعهد. قامت عليَّ القيامة. خابرني مدير دائرة العمل في مركز محافظة السليمانية محتجاً بشدة كيف أقوم أنا لا دائرته بتعيين عمالٍ ومستخدمين وبدون موافقته ؟ إعتذرت منه ووعدته أنْ سوف لن أقومَ بذلك في المستقبل. ما كانت إدارة المعهد بحاجة للمزيد من العمّال أو الموظفين لكني، رغم ذلك، فوجئت صباح أحد الأيام بفتاة من أهالي السليمانية جاءت بصحبة خطيبها لكنها دخلت وحدها مكتبي تحمل أمراً صادراً من زارة التعليم العالي والبحث العلمي بتعيينها ملاحظةً في المعهد !! كيف يكون ذلك دون موافقتي أو في أقل تقدير السؤال مني عن إحتياجات المعهد ؟؟ ما كان المعهد بحاجة للمزيد من الموظفين. طلبتُ من كاكا محمد أن يسجّل مباشرتها ثم عرفت أنها شقيقة زوجة الدكتور محمد عبد الله النجم، البعثي المستكرِد والذي أصبح الآن نائباً لرئيس الجامعة. كان هذا الدكتور البصري بارعاً في الإتكاء على متكأين وثيرين آمنين : الكرد بزوجته إبنة السليمانية السيدة ( كلزار ) من جهة وحزب البعث الحاكم من الجهة الأخرى. أليست الحياة فُرص ؟؟ الدكتور محمد عبد الله النجم يشغل اليوم (( 20/ 4/ 2005 )) وظيفة مستشار في وزارة التعليم العالي والبحث العلمي !!!!

 

بداية الدوام

في الأول من شهر أيلول 1974 بدأ الدوام الرسمي في المعهد والجامعة. ومع هذه البداية بدأت مشاكلي مع حزب البعث وعناصر مخابراته وأمنه وخاصة ( سامي عدّاي ) البصري. لقد نصّبوه مديراً لمعهد الإدارة والإقتصاد رغم إنه لا يحمل شهادة عليا. أكمل جامعة البصرة / القسم المسائي لا غير !! كان يتدخل في شؤون طلبتي في المعهد الطبي الفني ويقوم بزيارات ليلية إستفزازية لأقسامهم الداخلية ويعتدي على بعض الطلبة من غير المحسوبين عليهم وخاصةً مسؤولي الطلبة الشيوعيين. ثم تمادى أكثر فإستأثر بسيارة

( الفولغا ) الروسية البيضاء المخصصة لكلا المعهدين. قطعتُ عليه طريق التدخل في شؤون طلبة معهدنا بمنحي صلاحيات محدودة لمعاون مدير المعهد السيد هشام، وكان من بين هذه الصلاحيات مسؤولية الإشراف على الأقسام الداخلية المخصصة لطلبة وطالبات معهدنا. كنت مع هذه المشاكل منهمكاً في أمر إعداد جداول محاضرات المقررات الدراسية وإختيار الأساتذة المحاضرين فإصطدمتُ بالفخاخ والألغام القديمة التي وجدتها منتصبةً أمامي: هادي كاظم عوض، عميد كلية العلوم الجديد يروم التدريس في معهدي كمحاضر، كأن مخصصات العمادة ومحاضراته في كلية العلوم لا تكفيه. رفضته وكلّفت بدلاً منه الدكتور عبد الرضا الصالحي أستاذاً لمادة الكيمياء التحليلية. أستاذ مصري مخضرم ومحال في مصر على التقاعد متعاقد مع كلية الزراعة، وجدت إسمه أمامي على قائمة المحاضرين. ما علاقة الزراعة بمعهدٍ للطب الفني ؟ إكتشفت السر.كانت تقف وراءه السيدة فائزة العمادي، زوج رئيس الجامعة الدكتور طارق العمادي.كان هذا الأستاذ

المتهريء علماً وجسداً ( ستوك ) والذي لفظته الجامعات المصرية يقوم بزيارات خاصة إلى الكويت ليحمل حقائب الهدايا إلى ( فائزة العمادي ) مقابل تجديد عقد عمله في جامعة السليمانية. دأب هذا الرجل الخَرِف على النهوض فجرَكل يوم والصعود إلى أعلى منارة مسجد المدينة ليؤدي أذان الفجر بدل الملاّ المسؤول. كان يقوم بهذا العمل نفاقاً وزوراً مدعياً التمسك بالدين الحنيف وما كان كذلك لا خُلُقاً ولا مسلكاً ولا علماً. رفضت خدماته وقمت بتكليف أستاذ مصري آخر كفوء فقامت قيامة ( فائزة ) وحاولت فرضه عليَّ بشتى السبل فلم تفلح مساعيها. أكثر من ذلك، حاولت هي الأخرى أن تفرض نفسها معيدة في معهدي فرفضتها. لكن الخبيثة لم تيأس، إذ إستغلت غيابي لإنجاز بعض القضايا التي تخص المعهد في بغداد فأصدر معاون المدير السيد هشام ( هو الآخر كردي ) أمراً بالموافقة على خدماتها كمعيدة في المعهد. قام بهذه الخطوة في غيابي رغم علمه بموقفي من هذه المرأة، فضلاً عن تجاوزه لحدود الصلاحيات التي منحتها له. ليس في هذه الصلاحيات ما يخوّله تعيين معيدة في المعهد. سكتُ ولم أشأ إثارة المزيد من المشاكل فلدي منها الكثير. تغاضيت عن تجاوز السيد هشام وقررت الإحتفاظ به كصديق لا خصمٍ في محاولة لجعله منطقة فصل وحياد بيني وبين جبهة أمن ومخابرات البعث العريضة والضاربة القدرات.

كنتُ بحاجة ماسة لخدمات أطباء مختصين لتدريس مقررات ومفردات طبية معينة. لذا قمت بزيارة رئيس الصحة الدكتور ( أُوميد مدحت ) وسلّمته قائمة تتضمن ما يحتاج المعهد من إختصاصات وعدد الساعات الأسبوعية. تعاون الرجل معي بلا حدود. أعطاني حق مفاتحة من أشاء من الأطباء وتكليف من أشاء. أتصلت بعدد من الأطباء من ذوي الإختصاص والكفاءة فإعترضتني مشكلة غير محسوبة. طبيب مصري يمارس الجراحة بدون شهادة إختصاص. كان يدرِّس في المعهد في الأعوام الخوالي. رأيت أن من الأنسب والأفضل تكليف طبيب عراقي يحمل شهادة الدكتوراه في الجراحة من أرقى الجامعات البريطانية. كان المصريون طوال فترة حكم حزب البعث مدللين ووضعهم صدام حسين فوق رؤوس العراقيين.كأنه كان يسعى جاهداً للقضاء على العراقيين الأقحاح وقص جذورهم العريقة وإستبدالهم بمن هب ودب من مرتزقة العرب. ولم تكن السليمانية إستثناءً من هذا النهج البعثي المشبوه والشديد الخطورة. يأتي (( الأخوة العرب )) إلى العراق فيسارعوا للإنخراط في صفوف حزب البعث أصدقاءً أو مرشحين وأغلبهم كشرطة أمن وجواسيسَ مخبرين. صيد رخيص بالنسبة لصدام حسين وحزبه يوفر عليه عناد العراقيين وتمسكهم بما يحملون من عقائد وإصرارهم على عفة ضمائرهم ونظافة أيديهم. هؤلاء الزوار الثقلاء الوافدون بحاجة ماسة للوظائف والأموال وصدّام حسين بحاجة ماسة للشرطة الرخيصة والعملاء والمخبرين. قواسم مشتركة ومصالح متبادلة وأصبح كل شيء في الحياة سلعة معروضة في أسواق العرض والطلب. لقد غدا الكثير من هؤلاء أعضاء في حزب البعث ورأيت عدداً من الأساتذة المصريين يحملون جوازات سفر عراقية. سقتُ هذه المقدمة الطويلة لكي أقول إني وجدت نفسي في مأزق حقيقي : هل يستمر الدكتور المصري ( عبد الرحمن الريس ) الذي لا يحمل شهادة إختصاص في التدريس كما كان دأبه خلال الحُقبة التي سبقتني، أم أقوم بتكليف طبيب عراقي يحمل أعلى شهادة إختصاص في موضوع الجراحة ؟؟ تلكم هي المسألة التي حيّرت شكسبير قبلي…!!! الأخ المصري متكيء [[ مثل الدكتور محمد عبد الله النجم ]] على أريكتين ودعامتين قويتين : زوجه طبيبة مثله وسيدة من أهالي السليمانية. أما الأريكة الثانية فهي بالطبع حزب البعث وما يغدق من نعمٍ على (( الأخوة العرب )). لحل هذه الإشكالية جمعت كلا الطبيبين في مكتبي في إدارة المعهد وإقترحت عليهما حلاً وسطاً يقضي بأن يتفقا معاً على أن يقوم أحدهما بمهمات التدريس في الفصل الدراسي الأول ويترك التدريس في الفصل الثاني للآخر. قبِل الدكتور العراقي ( عدنان…) هذا العرض بينما تحفظ الأخ المصري عليه. كان يصر بإلحاح مزعج إنه مارس الجراحة طويلاً فإكتسب خبرة لا تتوفر لدىالدكتور عدنان. كان المسكين عدنان يناقش ويرد بأدب جم ولكن بتصميم الواثق من حقه وأفضليته على منافسه فيؤكد إنه يحمل شهادات عليا في الجراحة لا يحملها عبد الرحمن الريس. كان الدكتور عدنان تركماني من كركوك، أما الآخر فإنه مصري… عربي…

مستبعِث… مستكرِد، فلمن تكون الغَلَبة !!؟؟ قبل الأخ المصري بمقترحي بعد أن طمأنته أنَّ جامعة السليمانية بصدد الشروع بإفتتاح كلية للطب البشري وستكون الكلية الجديدة بحاجة ماسة لكليهما. إنفرجت أسارير الطبيب عبد الرحمن الريس فقام يودعني ويصافح الدكتور عدنان بحرارة وقد إطمأنَّ على مصالحه وأصبحت الأمور في جيبه. إلى أي حد يحب بعض الناس المال ؟ كان هذا الرجل يعمل طبيباً في مستشفى السليمانية، ولديه عيادة خاصة يفتحها بعد الدوام، وزوجه هي الأخرى طبيبة، ومع كل ذلك ينافس دون حياء طبيباً عراقياً أكفأ وأعلم منه. وجدتُ بعض النفوس مصابةً بداء السُعار وسرطان الرغبة الجامحة لجمع المال. جاء العراقَ ضيفاً للعمل بعقد سنوي ثم قام ينافس دون وجه حق أهل البلد ويزاحمهم في خبزتهم ومصادر رزقهم. هل تسمح [ أرضُ الكنانة ] مصر بذلك ؟؟

بلغ السيلُ الزُبى فقررت إنهاء تنسيبي والرجوع إلى مكاني السابق مدرساً في كلية العلوم في جامعة بغداد. جاءت الموافقة على إنهاء تنسيبي في الأول من شهر تشرين الثاني بسرعة قياسية ولكن ظلَّ أمر نقل زوجتي معلّقاً. في فترة إنتظارنا لهذا الأمر كان عميد كلية العلوم هادي كاظم عوض يضغط بشدة ويسأل بإلحاح متى أُسجّل إنفكاكي من كلية العلوم وجامعة السليمانية. قال إنه نفسه تحت ضغط كبير. سألته من يضغط عليك ؟ جاء جوابه واضحاً وصريحاً : رئيس الجامعة والمكتب. سألته ماذا يقصد بالمكتب ؟ قال المكتب المهني لحزب البعث !!؟؟ سجلّت بعد أسبوع إنفكاكي وغادرت إلى بغداد فسجّلت مباشرتي في قسم الكيمياء / كلية العلوم / جامعة بغداد. تم تنسيبي خلافاً لرغبتي للتدريس في كلية التربية فصدر الأمر الجامعي المرقم (( 49382 بتأريخ التاسع من شهر تشرين الثاني 1974 )). وماذا عن مصير زوجتي وأطفالي الذين تركتهم خلفي في فندق السلام في مدينة السليمانية ؟ عرقل بعثيو بغداد أمر نقل زوجتي ولم يشأ بعثيو السليمانية التدخل. راجعت مدير عام التعليم الثانوي ( سلمان داوود العزاوي ) وهو زميل لي في دار المعلمين العالية، فإعتذر بإنَّ أمامه قائمة طويلة بأسماء معلمات ومدرسات ينتظرن دورهن في الإنتقال إلى بغداد حسب القاعدة الزوجية. قلت له إني نسّبت نفسي لجامعة السليمانية وصاحبتني زوجي حسب القاعدة الزوجية إياها، فالمفروض أن تصحبني في أوبتي ثانيةً إلى مكان عملها السابق في بغداد.لم يقبل حجّتي. ذهبت صباح اليوم التالي لأقابل وكيل وزارة التربية الدكتور عصام عبد علي، وكان زميلاً هو الآخر في دار المعلمين العالية يسبقني بثلاث سنوات، ثم جاء الحلةَ مدرساً في الثانوية حيث عقد صداقة متينة مع أخي جليل الذي كان يومها يشغل وظيفة ملاحظ في نفس المدرسة الثانوية. تهرّب من مواجهتي ثم تقابلنا مقابلة صدفة ففاتحته بأمر نقل زوجتي إلى بغداد فإعتذر بإنه لا يتدخل في مثل هذه الأمور لإنها خارج نطاق مسؤولياته. حاولت صباح اليوم التالي مقابلة رئيس جامعة بغداد الدكتور سلطان الشاوي في رئاسة جامعة بغداد في الجادرية فأخبرني سكرتيره إنه مشغول جداً ولا وقت لديه لمقابلة زائرين أو مراجعين. مرَّ شهر تشرين الثاني ثقيلاً مريراً وكنت فيه مشغولاً بمصير عائلتي وغدا فكري مشتتاً ففقدت القدرة على التركيز والنوم الطبيعي. وكان مطلوباً مني أن أقوم بالتدريس في كلية التربية خمساً وعشرين ساعةً في الأسبوع بين محاضرات ومختبرات. كنتُ وقتها مقيماً في بيت أخي جليل في حي السلام في الكرخ من بغداد.كان ولدي أمثل ( أربع سنوات ) وأُخته قرطبة ( أقل من ثلاث سنوات ) يطلبان أباهم ويسألان أمهما لماذا هم وحدهم في السليمانية وأبوهم في بغداد ؟؟ كانت تقول لهما إنه ذهب قبلنا إلى بغداد ليستأجر لنا بيتاً ويشتري لكما سيارة. يرفضان هذا الجواب ويصرّان على زيارة بغداد لرؤية أبيهم. لذا كانوا يأتون بغداد في نهاية كل أسبوع ليقضوا معي ليلة واحدة فقط هي ليلة الخميس / الجمعة. ويكون فراقهم غاية في الصعوبة ساعة توديعهم في كراج سيارات بغداد ـ السليمانية. يسألني ولدي أمثل بثقة ممزوجة بعتاب الناضجين الكبار (( بابا… لماذا لا تأتي معنا إلى السليمانية ؟ بابا… أين سيارتك ؟ )).كيف أترك أطفالي وأمهم غرباء في مدينة بعيدة وفي ظروف غير طبيعية وليست مستقرة، مأواهم في فندق يتعرض للقصف أحياناً ؟ كان الفندق لحسن الحظ محجوزاً للأساتذة العرب وغير العرب الأجانب القائمين على التدريس في الجامعة. بيت كبير لعائلة كبيرة واحدة.كان دوام أطفالنا في مدرسة الراهبات وإختلاطهم ولعبهم مع بقية الأطفال يشغلهم نهاراً وينسيهم المحنة التي هم فيها وينأى بهم عن التفكير بأبيهم. ولكن ما أن ينتهي دوامهم في المدرسة عصراً حتى يبدأ ضغطهم على أمهم فتتضاعف همومها المتشعبة. ماذا يمكن أن يحل بأطفالي وهم وحدهم دون رفقة أبيهم ؟؟!! وضعتُ تصاويرهم أمامي على طاولة عملي اليومي في بيت أخي فزادتني الصور هموماً. صرت أرفعها يوماً لأضعها في مكانها في اليوم التالي. حالة غير طبيعية ولا يمكن قبولها. كتبت في اليوم الأول من شهر كانون الأول 1974 وأنا في حالة نفسية سيئة ومتأزمة ـ وقد سُدّتْ السبل الأصولية جميعاً في وجهي ـ رسالةً مسجلة لصدام حسين أعرض فيها مأساة أطفالي ووالدتهم في السليمانية. شرحت له وضع من قابلتُ من المسؤولين دون جدوى. قلت له أطفالي وأمهم يعيشون وحدهم في فندق السلام في مدينة السليمانية، بينما أقيم أنا في بغداد مع أخي في حي السلام. طلبتُ منه أن يتدخل فيأمر أو يسعى لنقل زوجتي إلى بغداد لكي تلتحق والأطفال برب الأسرة. مرَّ أسبوعان ولم ألمح بارقة أمل في الأفق ولم نحصل على جواب فيئستُ من تدخل صدام حسين الذي كان يومذاك نائب أمين سر قيادة حزب البعث القطرية ونائب رئيس مجلس قيادة الثورة. بدل الأمر بنقل أم أولادي إلى بغداد تعرض فندق السلام في قلب مدينة السليمانية إلى حادث إطلاق نار مصدرها السطوح العالية لمعمل التبغ والسجاير المقابل للفندق. إخترقت رصاصتان زجاج نافذة غرفة عائلتي التي كانت تطلُّ على الشارع العام وتواجه المعمل ومصدر إطلاق النار. مرّت واحدة فوق رأس طفلنا أمثل لتستقر عميقاً في الجدار المقابل. طرحت الأم الطفلين وهي تصرخ بأعلى صوتها على أرض الغرفة ثم ألقت بنفسها فوق جسديهما. إخترقت رصاصة ثانية زجاج النافذة لتستقر هي الأخرى عميقاً في الجدار المقابل. وسط صراخ الأطفال وهلع الأم سارع بالمجيء إلى غرفة العائلة كل من كان ساعتها في الفندق لإستجلاء الموقف والإطمئنان على سلامة سكنة الغرفة. لم يصب أحد من أفراد عائلتي بأذى. تركت من فرط الصدمة عائلتي صباح اليوم التالي السليمانية عائدة على عجل إلى بغداد لتقصَّ عليَّ تفاصيل ما جرى لها وللأطفال. دبّرت لها بمساعدة طبيب صديق إجازة مرضية طويلة كيما تنسى الحادث وتبتعد عن أجواء الحرب في السليمانية. ثم جاءت المفاجأة الكبرى التي تحمل فضلاً عن البشرى السارّة الكثير من الشكوك في نوايا وطبيعة صدام المجبولة على الشر والغدر والضِعة والوحشية. فلقد صدر الأمر بنقلها إلى بغداد بتدخل صدام نفسه. حين لم تنجح المؤامرة ونجت زوجتي وأطفالي من مخطط القتل الشرير، تحرك صدام في اليوم التاسع عشر من شهر كانون الأول فأحال رسالتي إلى وزير التربية المرحوم ( محمد محجوب ). سأنقل محتوى الأمر الوزاري لطرافته ولأنه يؤرخ لفترة من فترات العراق الحرجة والبالغة الخطورة والغموض.

 

وزارة التربية العدد/ ذ/ث/ 200

المديرية العامة للتعليم الثانوي التأريخ /2/1/1975

ـ الثانوي ـ

ـ أمر وزاري ـ

م/ نقل مدرِّسة

بناءً على طلب السيدة إقبال جواد جابر جوير مدرسة الفن في مدرسة الفنون البيتية في مديرية تربية محافظة السليمانية تقرر ما يلي :

1- نقلها لأمر مديرية تربية محافظة بغداد ـ الكرخ

2- تنسيبها للعمل في معهد إعداد المعلمات ببغداد لتقوم بتدريس إختصاصها فيه وذلك سدّاً للشاغر دون أن تُمنح أية مخصصات أو أجور إضافية من جرّاء هذا التنسيب

3- يُعتبر الأمرُ نافذاً من بعد الإنتهاء من إمتحانات نصف السنة للعام الدراسي 74/ 75 وعلى نفقتها الخاصة.

( توقيع )

محمد محجوب

وزير التربية

 

صورة إلى /

مجلس قيادة الثورة/ مكتب نائب الرئيس/ ليتفضل السيد نائب الرئيس بالإطلاّع وحسب هامشه المؤرَّخ في 19/12/1974 .

المديرية العامة للتعليم المهني/ النسوي/ هامشكم المؤرخ في 19/12/1974

المديرية العامة للإشراف التربوي/ مديرية إعداد وتدريب المعلمين

مديرية تربية محافظة السليمانية / لمتابعة الإنفكاك

مديرية تربية محافظة بغداد/ الكرخ / لمتابعة المباشرة

مديرية التعليم الثانوي/ 2

مديرية الحسابات

مديرية خزينة محافظة / -----

السجّل الشخصي

إدارة معهد إعداد المعلمات / لمتابعة إلتحاقها بمعهدكم وإعلامنا

إدارة المدرسة

السيدة / -----

 

في نفس أمسية الحادث، جاء الفندقَ ضابط أمن ليعتذر ويؤاسي زوجتي ثم قدم لها تفسيراً ملفّقاً لظروف الحادث : قال إنَّ الأكراد البيشمركة هم من كان قد فتح النار على الفندق من فوق قمم الجبال العالية. لعمري… الذي يطلق النار من قمة جبلٍ عالٍ لا يصيب إلاّ غرف الطوابق العليا للفندق ( الخامس والسادس ). كانت غرفة عائلتي على الطابق الأول. وهو موضع واطيء تعلوه كثيراً بنايات متعددة تابعة لمعمل التبغ والسجاير. ثم، كيف تخترق رصاصة قادمة من بعيد زجاج النوافذ وتحفر عميقاً في جُدُر سميكة من الحجر المغطّى بالإسمنت ؟؟!! عاد ضابط الأمن وأضاف إن المقصود هو رجل كردي متعاون مع سلطة البعث يسكن الغرفة المجاورة… وهو ( قائم مقام ) أحد أقضية السليمانية ؟؟!!

 

 

 

 

 

--------------------------------------------------------------------------------

 

Advertise on Sotaliraq.com | Iraq News | Latest Articles | Newspapers | Links | Donate | Contact

 

 

 

The comments-system has been disabled. It will be back online soon

تنبيه: صفحة التعليقات توقف مؤقتا ل ايجاد طريقة افضل

 

 

 

 

جميـــع حقــوق الطبـــع والنشــــر محفوظة لصوت العراق © 2005

 

 

 

 

Since 20 January 2003

 

 

 

Link to comment
Share on other sites

  • 2 years later...
Guest ali afandi
والله هذا الحجي كله كذب لانه اني عشت هاي الفترة بنفسي بس انتوا متصيرلكم جارة عشتوا عملاء وتموتون عملاء
Link to comment
Share on other sites

Archived

This topic is now archived and is closed to further replies.

×
×
  • Create New...