Jump to content
Baghdadee بغدادي

العراق.. بين آل عقيل وآل المهلب


Recommended Posts

 

    رشيد الخيُّون  2005 الجمعة 6 مايو 

العراق.. بين آل عقيل وآل المهلب

 

 

 

أعجب العجب أن تتشرذم الخلافة الإسلامية، بعد موت معاوية الثاني بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، كل هذا التشرذم. ثم تعود لآل أمية ممثلين بمروان بن الحكم. حدث ذلك بعد أن ضاقت الدنيا بابن الحكم، الذي قال لابنه عبد الملك: "يا بنيَّ! إن ابن الزبير قد أخرجني! ويعني إخراج آل أمية من المدينة. وكان عبد الملك "عليل مُجدر"، فحمله معه ملفوفاً بالقطن. ولم يبق من بلدان الدولة الإسلامية، التي وسعها معاوية في الفتوح، مخلصة للأمويين غير الأردن. ومن العجب أيضاً أن يستولي عبد بن الزبير على الحجاز والعراق ومصر وجزء كبير من الشأم وينتهي محصوراً عند جدار الكعبة، وتنتهي الحركة الشيعية بعد تصفية قتلة الحسين، ليستولي ذلك العليل بالجدري من جديد، ويخلع خالد بن يزيد بن معاوية، ومن بعده عمرو بن سعيد بن العاص، من ولاية العهد بعد أبيه مروان.

عندما تشتد السياسة، مهيمنة على الدين وتركبه واسطة إلى السلطة، لا تتأخر من تقنين أُصوله وفروعه. فهذا عبد الله بن الزبير عندما وجد في بني هاشم عداوة ترك الصلاة على محمد في خطبته" فقيل له لِمَ تركت الصلاة على النبي؟ فقال: إن له أهل سوء يشرئبون لذكره، ويرفعون رؤوسهم إذا سمعوا به"(تاريخ اليعقوبي). وإن عبد الملك بن مروان منع أهل الشأم من الحج إلى الكعبة "ذلك لأن ابن الزبير كان يأخذهم، إذا حجوا بالبيعة". ولما أحتج الناس أتى براوية الحديث المشهور ابن شهاب الزهري ليروي لهم ما يبرر تصرفه. فقال الزهري عن النبي محمد: "لاتشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي، ومسجد بيت المقدس". قال عبد الملك: ومسجد بيت المقدس "يقوم لكم مقام المسجد الحرام، وهذه الصخرة التي يروى أن رسول الله وضع قدمه عليها، لما صعد إلى السماء، تقوم لكم مقام الكعبة"(وردت الرواية في أكثر التواريخ). ولأمر سياسي ممزوج بالديني قام عبد الملك و"بنى على الصخرة قبة، وعلق عليها ستور الديباج، وأقام لها سدنة، وأخذ الناس بأن يطوفوا حولها، كما يطوفون حول الكعبة". وعلى هذا المنوال يُغلف السياسيون طموحاتهم الشخصية والفئوية بالدين تغليفاً مفضوحاً، فحتى يأتي وزيراً يزايد في الصلوات على النبي، ويهدر دم ابن النبي إذا اعترض عليه.

تشرذمت الخلافة الإسلامية، ومازال البكاء عليها، تحت عدة مسميات، خلافة راشدية أو فاطمية وعلوية، أو عربية مجيدة. وكأن الدماء التي سفكت من أجلها باسم الدين كانت مياه مزن، لم تجر في عروق بشر! بعد موت مروان بن الحكم (65هـ) وقفت بعرفات أربعة رايات، كل يدعو لصاحبه باسم القرآن ومحمد. والرايات هي: راية محمد بن الحنفية في أصحابه، ولابن الزبير في أصحابه، ونجدة بن عامر الحروري (الخوارج)، وبني أمية. حصل هذا بعد حوالى خمسة عقود من وفاة النبي، الذي ترفع الرايات المتناحرة اسمه جمعياً. وفي هذا المشهد المريع قال المساور بن هند بن قيس: "وتشعبوا شعباً، فكل قبيلة فيها أمير المؤمنين"! ومازالوا متشعبين شعباً متناحرة، يأخذون الناس بالدعوة إلى الدين. ومَنْ عجز عن تحقيق مراده بالسيف لجأ إلى اللعب على سذاجة العوام، عبر الديمقراطية. إنها لعبة جديدة، لكنها في منتهى السخرية.

قلنا من أعجب العجب أن تعود الولاية إلى عبد الملك بن مروان، الفتى مصاب بالجدري، حمله أبوه ملفوفاً بالقطن، حتى لا يتساقط جلده ولحمه. عادت له بعد قتل أمير العراق مصعب بن الزبير، ثم قتل الخليفة الموازي عبد بن الزبير، وإخضاع محمد بن الحنفية، وتعطيل ولاية العهد لخالد بن يزيد وعمرو بن سعيد. وعلمنا أنه ألغى الحج وهو الفريضة التي وردت بالقرآن، دون أن يجد تعنيفاً في إلغائها، مازال هناك نص يروى عن النبي، وهو الحج إلى أحد الثلاثة مساجد. ولم يجد ابن الزبير تعنيفاً في إلغاء الصلاة على النبي، مثلما لم يجد معاوية تعنيفاً في شتم على بن أبي طالب مع فروض الصلاة.

هناك أُسرتان، آل عقيل وآل المهلب، لعبتا دور الدين ودور السياسة في ترسيخ الحكم الأموي، وفي أرض تغور بالثورات، هي أرض وهم أهل العراق. وأعود مذكراً بمقالتي ابن بحر الجاحظ (ت 255هـ) و عز الدين ابن أبي الحديد (ت 656هـ) في أمر ثوران العراقيين. قال الجاحظ: "العلة في عصيان أهل العراق على الأمراء، وطاعة أهل الشام، أن أهل العراق أهل نظر وذوو فطن ثاقبة. ومع الفطنة والنظر يكون التنقيب والبحث. ومع التنقيب والبحث يكون الطعن والقدح، والترجيح بين الرجال، والتمييز بين الرؤساء، وإظهار عيوب الأمراء. وأهل الشام ذوو بلادة وتقليد وجمود على رأي واحد، لا يرون النظر، ولا يسألون عن مغيب الأحوال"(ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة).  وقال عز الدين بن أبي الحديد، العلوي الهوى والشافعي المذهب: "مما ينقدح لي من الفرق بين هؤلاء القوم وبين العرب الذين عاصروا رسول الله، صلى الله عليه وآله، أن هؤلاء من العراق وساكني الكوفة. وطينة العراق ما زالت تنبت أرباب الأهواء وأصحاب النحل العجيبة، والمذاهب البديعة. وأهل هذا الإقليم أهل بصر وتدقيق ونظر، وبحث عن الآراء والعقائد، وشبه معترضة في المذاهب. وقد كان منهم في أيام الأكاسرة مثل ماني وديصان ومزدك وغيرهم"(المصدر نفسه).

استنزف الحجاج بن يوسف الثقفي (95هـ) العراق بالخراج والحروب والقتل، طوال عشرين سنةً، حتى تركه خاوياً، يتعثر أهلوه بشبح جلاده وصاحب عذابه. ولم تكن بعده ولاية العراق مغرية لأحد، فمَنْ يخلف الحجاج عليه أن يُنسي العراقيين أيامه العجاف. يقلل من الإسراف بالأموال والدماء. ولهذا حاول يزيد بن المهلب (ت 102هـ) الاعتذار لسليمان بن عبد الملك (ت99هـ)، وأن لا يتولى أمر العراق بعد الحجاج.

جاء في الرواية: "أن يزيدَ نظر لما ولاه سليمان ما ولاه من أمر العراق في أمر نفسه. فقال: إن العراق قد أخر بها الحجاج، وأنا اليوم رجاءُ أهل العراق. ومتى قدمتها وأخذت الناس بالخراج وعذبتهم عليه صرتُ مثل الحجاج، أدخل الناس الحرب، وأعيد عليهم تلك السجون، التي قد عفاهم الله منها. ومتى لم أتِ سليمان بمثل ماجاء به الحجاج لم يُقبل مني. فأتى يزيد (ابن المهلب) سليمانَ فقال: أدلك على رجل يصير بالخراج توليه إياه، فتكون أنت تأخذه به؟ صالح بن عبد الرحمن، مولى بني تميم. فقال له: قد قبلنا رأيك. فأقبل يزيد إلى العراق"(الطبري، تاريخ الأمم والملوك). أصبح للعراق أميران، صالح أمير الخراج ويزيد بن المهلب أمير الجند أو الحرب. بينما كانت العادة أن تجمع إمارة الصلاة والخراج والحرب لأمير واحد.

وأراد يزيد بن المهلب أن لا يتورط بتركة الحجاج حتى لا تقل منـزلته لدى سليمان بن عبد الملك، وكان يرغب في إمارة خراسان، التي تولاها بعد وفاة والده المهلب بن أبي صُفرة، وإشرافه على منازل فتوح والده. دس ابن المهلب صاحبه عبد الله بن الأهتم، وهو شخصية لها حظوتها عند الخليفة، أن يقنع سليمان بإبعاده عن إمارة العراق ويرشحه لإمارة خراسان. فكتب ابن المهلب، بعد ضجره بالعراق، لسليمان بن عبد الملك أن ابن الأهتم له عِلم بالعراق وبخراسان، ومن الأصلح أن يستأنس بمشورته. فاستقدمه الخليفة وسأله أن يرشح له عاملاً لخراسان، فذكر له يزيد بن المهلب. فرده سليمان بالقول: "ذاك بالعراق، والمقام بها أحب إليه من المقام بخراسان". قال ابن الأهتم: "قد علمت يا أمير المؤمنين. ولكن تكرهه على ذلك، فيستخلف على العراق رجلاً ويسير". قَبل الخليفة الرأي، وكتب عهداً لابن المهلب على خراسان. استلم ابن المهلب كتاب التعيين وسار من ساعته، مفارقاً العراق إلى خراسان. لكنه ظل مشرفاً على مَنْ أوكل لهم ولايات الكوفة وواسط والبصرة. وقيل مقابل رشوة أثبت ابن الأهتم ابن المهلب بخراسان بعد أن كاد سليمان بن عبد الملك يجعلها لوكيع بن أبي سُود. ذلك أنه حمل رأس الوالي السابق قتيبة بن مسلم بعد شقه عصا الطاعة في الولاية.

جاء في الرواية "فجعل يزيد بن المُهلب لعبد الله بن الأهتم مائة ألف درهم على أن ينقر (يُعيب) وكيعاً عنده. قال: "أصلح الله أمير المؤمنين! والله ما أحد أوجب شكراً، ولا أعظم عندي يداً من وكيع، لقد أدرك بثأري، وشفاني من عدوي. ولكن أمير المؤمنين أعظم وأوجب عليَّ حقاً، وأن النصيحة تلزمني لأمير المؤمنين. إن وكيعاً لم يجتمع له مائة عَنان قط إلا حدث نفسه بغدرة، خامل في الجماعة، نابه في الفتنة. فقال الخليفة: "ماهو إذاً ممَنْ نستعين به". وهنا تخلص يزيد بن المهلب من منافسين له في أمر خراسان، قتيبة بن مسلم الذي قتله وكيع بن أبي سُود، ووكيع الذي أتهم بقتل قتيبة بأكذوبة خلعه سليمان، أو شق عصا الطاعة عن دار الخلافة كما أدعى وكيع.

كان يزيد بن المُهلب من أشد القادة الذين اعتمد عليهم الحجاج بن يوسف الثقفي في حرب ثورة عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث. ومن الأسرى الذين سلمهم للحجاج الشاعر أعشى همدان، وراوية الحديث عامر الشعبي، والرجل الغني فيروز بن حصين، وعمر بن موسى صاحب شرطة ابن الأشعث، ومحمد بن سعد بن أبي وقاص وغيرهم. وكان الفرزدق الشاعر لساناً للحجاج عند محاكمة الأسرى. فقال له قم يافرزدق أنشده، ويعني ابن موسى، ما قلت فيه. فقال:

وخضبت أيرك للزِّناء ولم تكن

يوم الهياج  لتخضب  الأبطالا

لم يترك الحجاج يزيداً، فأخذ يوجر عليه قلب عبد الملك بن مروان، حتى عزله. بعد أن قُرأ  له في الطالع أن شخصاً اسمه يزيد سيخلفه على العراق، ولم يحدد له أفي حياته أم بعد الممات. فأُخذ آل المهلب وسجنوا في خلافة الوليد بن عبد الملك، وفروا من السجن، ليصلوا إلى سليمان بن عبد الملك عبر بطائح جنوب العراق وصحراء السماوة، وهو أمير بحلب، فأجارهم. ولما طلب الوليد يزيد بن المهلب بعثه سليمان مقيداً في سلسلة واحد مع ولده، فسقط ما بيد أخيه الخليفة الوليد لما رأى ابن أخيه مقيداً، فأعفى عنه. وظل ابن المهلب في حماية سليمان حتى مات الوليد ومات الحجاج، فعاد أميراً، كراهة على العراق.

ولما استخلف عمر بن عبد العزيز سئل يزيد بن المهلب عن أموال لسليمان بن عبد الملك لديه، وبُعث مقيداً إلى الشام، فسجن هو وأخوته وأصحابه. لكنهم فروا ثانية من السجن، لما سمعوا بمرض عمر بن عبد العزيز، وقرب خلافة يزيد بن عبد الملك الشديد عليهم، فزوجته من أم الحجاج كانت ابنة محمد بن يوسف الثقفي أخ الحجاج. ولهذا لن يرحمهم إن ظفر بهم ثأراً لعذاب آل عقيل، أهل الحجاج بن يوسف الثقفي، بأمر من سليمان بن عبد الملك. وذلك لتحبيذ الحجاج خلع سليمان من ولاية العهد لصالح عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك. وقد فعل الحجاج ذلك مع عبد الملك بن مروان عندما حبذ له خلع أخيه عبد العزيز لصالح ولده الوليد.

بعد هذا لم يكن أمام يزيد بن المهلب إلا الثورة على يزيد بن عبد الملك وخلعه، فالعصيان بالعراق أو خراسان لا ينفعانه إن لم يخلع الخليفة بدمشق. فقدم إلى البصرة واستولى عليها. وكان لآل المهلب فيها وشائج وأملاك. ثم بسط سيطرته على واسط. وأتته قوات الأمويين من الكوفة ودمشق بقيادة مسلمة بن عبد الملك. فقُتل وأتي برأسه إلى دار الخلافة. أما أخوته فبحروا بأموالهم في سفن من ساحل البصرة إلى البحرين. وأشار عليهم أميرها أن لا يتركوا سفنهم، فالأمويون يطلبونهم بلا كلل. بعدها أتوا كرمان من نواحي إيران، وهناك ألقي القبض عليهم، فحملت رؤوسهم وأموالهم إلى الخليفة.

لم ينفع آل المهلب توطيد العرش الأموي، بالقضاء على الأزارقة من الخوارج، وكانوا من أشد المحاربين لهم بقيادة عميدهم ابن أبي صُفرة، ولولاهم لغلب الأزارقة على المشرق كافة. ولم تنفعهم مساهمتهم الفعالة في القضاء على حركة عبد الرحمن بن محمد، حفيد الأشعث بن قيس، الذي عمل ما في وسعه لشق جيش علي بن أبي طالب في أمر التحكيم، وذكره علي بالحائك. ولم ينفع آل المهلب قيادتهم لفتوح المشرق من خراسان وكرمان وخوارزم وما بعدها.

كان الحسن البصري (ت110هـ) مراقباً الأحداث الجسام التي جرت على العراق وأهله، وشاهداً على تقلب يزيد بن المهلب وآله، من سيوف وجلادين بيد الخليفة الأموي إلى ثائرين ضده. قال الحسن للبصريين، وهم يقفون بالرماح والرايات صفين، ينتظرون خروج ابن المهلب، يدعوهم إلى سُنَّة العُمرين (ابن الخطاب وابن عبد العزيز): "إنما كان يزيد بالأمس يُقرب أعناق هؤلاء الذين ترون. ثم يسرح بها إلى بني مروان. يريد بهلاك هؤلاء رضاهم... إن من سُنَّة العُمرين أن يوضع قيد في رجله، ثم يُرد إلى محبس عمر (ابن عبد العزيز)، الذي فيه حبسه"(تاريخ الأمم والملوك). وأتهم أخو يزيد مروان بن المهلب البصري بتثبيط همم الناس ضد أهل الشام. قال خاطباً: "لقد بلغني أن هذا الشيخ الضال المرائي يثبط الناس. والله لو أن جاره نزع من خُص داره قصبةً لظل يرعف أنفه. أينكر علينا وعلى أهل مصرنا أن نطلب حقنا، وأن ننكر مظلمتنا! أما والله ليكفنّ عن ذكرنا وعن جمعه إلينا سُقاط الأبلة، وعلوج فُرات البصرة، قوماً ليسوا من أنفسنا، ولا ممَنْ جرت عليه النعمة من أحد منا، أو لأنحِينّ عليه مبرداً خشناً".

عشرون سنة حكم العراق آل عقيل وعميدهم الحجاج. وكان إذا تغيب نادى بولده نائباً، وبأخيه قائداً، مسك لآل مروان العراق، بينما مسك أخوه الآخر محمد بن يوسف لهم اليمن. وأسرة آل عقيل أثبتت ولائها بإخلاص متناهٍ للأمويين، من آل عبد الملك. ولم ينزعوا يوماً ما إلى الخلافة، وكانوا مهيمنين بجند الشأم. أما آل المهلب فكان لهم المشرق، خراسان وما بعدها، وكانوا مهيمنين بجند العراق. أخلصوا لآل مروان، ووطدوا حكمهم وحكم الحجاج بالعراق. إلا أن التنافس مع آل عقيل على طاعة الخليفة جعلهم يميلون إلى التفرد بالعراق وخلع الخليفة. كانت عاقبة الأسرتين مأساوية. فبعد فطس عميدهم الحجاج قُتل آل عقيل وعذبوا، ولم تبق منهم باقية لا بالشأم ولا بالعراق. ولم تقم قائمة لأولاد المهلب وأحفاده، فقد حملت رؤوس يزيد، وحبيب، والمفضل، ومروان، وعبد الملك، ومحمد، تلاحقها نظرات السخط. والسعيد مَنْ يتعظ من تقلب الحدثان، فما رفعت شعائر الدين والمذاهب بعراق اليوم إلا تيمناً بآل عقيل وآل المهلب. وعلى حد قول الفرزدق:

أظن رجال الدرِّهمين يسوقُهمْ

إلى الموت آجالٌ لهم ومصارعُ

 

r_alkhayoun@hotmail.com

Link to comment
Share on other sites

  • 1 month later...
Guest Guest

الشُّروط العُمريَة.. الخميني بعدَ ابنِ تيمية

رشيد الخيُّون

 

 

 

--------------------------------------------------------------------------------

 

 

الشُّروط العُمريَة هي مجموعة الأحكام التي وردت في معاملة أهل الذمة. والذمة مصطلح يعتقد العديد من الفقهاء قد تجاوزه الزمن، وحلت محلها مفهوم الإنسانية وروابطها وفق دستور مدني. لذا لا تجد لهذه الشُّروط أثراً في معظم الرسائل الفقهية. فالشعوب اختلطت وأصبحت الرابطة الإنسانية هي المقياس في التعامل. يضاف إلى هذا أنه من الصعوبة بمكان إثبات هذه الشُّروط، أو ما يشير إليها، في القرآن والسُنَّة. فهي حسب اسمها مرفوعة إلى أحد الخليفتين: عمر بن الخطاب أو عمر بن عبد العزيز. وهناك مَنْ يحاول تأكيدها بقوة بنسبتها إلى ابن الخطاب (قُتل23هـ) ونسبة إحيائها إلى ابن عبد العزيز(ت 101هـ).

ظلت تطبيقات تلك الشُّروط خاصة بالمذهب الحنبلي والمذهب الشافعي. ووردت عند ابن تيمية (ت 728هـ) في "مسألة الكنائس"، ثم تلميذه ابن قيم الجوزية (ت 751هـ) في "أحكام أهل الذمة". وتكررت بعدهما في كتب الحسبة كافة، وعادة ما يكون المحتسب حنبلياً أو شافعياً. وفي خلافة الناصر لدين الله (ت 622هـ) اقترح الفقيه الشافعي محمد بن يحيى بن فضلان (ت631هـ)، أستاذ المدرسة المستنصرية ووالي الجوالي أو رئيس ديوان أهل الذمة، تطبيقها، بعد فرضها من قبل عدد من الخلفاء العباسيين. إلا أن الناصر لم يعط اهتماماً لرسالة ابن فضلان (وردت الرسالة كاملة في الحوادث الجامعة المنسوب لابن الفوطي، وأوردتها في كتاب الأديان والمذاهب بالعراق).

لكن من الغرابة بمكان أن يجعلها آية الله الخميني في رسالته "تحرير الوسيلة". وهو بهذا شذ عن مراجع الشيعة بداية من شيخ الطائفة الطوسي (ت 460هـ) وحتى المراجع المعاصرين مثل آية الله السيد محسن الحكيم في "مستمسك العروة الوثقى"، وآية الله أبي القاسم الخوئي في "مباني العروة الوثقى". كذلك لم نجدها في رسالة المرجع الأكبر أبي الحسن الأصفهاني "وسيلة النجاة". ورسالة الخميني جاءت على هديها. وماذا يقول آية الله الخمين، وهو يدعو إلى تطبيق تلك الشُّروط المؤذية في أهل الكتاب إذا تاكد له أن سفير الإمام علي بن أبي طالب إلى الخوارج كان يهودياً عراقياً. "رجلاً من يهود السَّواد"(مروج الذهب). وما عساه يقول في الصداقة العامرة بين المرجع الشيعي جامع "نهج البلاغة" ونقيب الطالبيين وتلميذ الشيخ المفيد، الشريف محمد حسين الرضي (ت406هـ) وبين الصابئي أبي إسحاق إبراهيم بن هلال (ت384هـ)؟ وماذا يقول الجميع حول صلاة النصارى في مسجد الرسول وبحضوره (سيرة ابن هشام)؟

قدم الدكتور صبحي الصالح في كتابه "شرح الشُّروط العُمريَة"، المستلة من "أحكام أهل الذمة" لابن قيم الجوزية، متابعة لأصل تلك الشُّروط. لكن لم يتوصل إلى أكثر مما جاء به ابن عساكر (ت 572هـ) في "تاريخ دمشق". ثم ابن قيم في كتابه المذكور. وقد وردت ضمن رسالة كتبها مسيحيو دمشق، حسب ابن عساكر، ومسيحيو الجزيرة، حسب ابن قيم، إلى عمر بن الخطاب عبر والي الجزيرة عبد الرحمن بن غَنيم. وبدورنا فتشنا في العهود النبوية والراشدية الممنوحة إلى أهل الذمة فلم نجد أثراً فيها لتلك الشُّروط.

كذلك فتشنا في أمهات كتب التاريخ "تاريخ الأمم والملوك" للطبري (ت 310هـ) و"تاريخ اليعقوبي" لابن واضح(ت 297هـ) وغيرها فلم نجد لهذا أثراً يذكر. كذلك فتشنا في كتب الأموال مثل كتاب "الأموال" للقاسم بن سلام (ت224هـ) فلم نجد شيئاً. لكن نجد جملة من الأحكام في "خراج" أبي يوسف (ت182هـ) خاصة في "لباس أهل الذمة وزيهم" (راجع الخراج 127)، وهي أكثر ما خصت نصارى العرب من قبلية تغلب، وليس النصارى على العموم. ومعلوم أن أبا يوسف خالف إمامه أبا حنيفة في أمور عديدة، منها القرب من السلطان، وقبول وظيفة القضاء، ومسايرة أمزجة الخلفاء. ومع ذلك لم يورد أبو يوسف في العهد النبوي شرطاً من شروط اللباس أو القهر الشخصي على أهل الذمة(راجع الحاشية).

قلنا يصعب إثبات الشُّروط العُمرية، لأنها لم ترد في عهد عمر بن الخطاب، ولا في عهود الخلفاء الراشدين الآخرين، بل هي أحكام متأخرة على تلك الفترة. والأكثر من هذا أنها أتت من أهل الذمة أنفسهم. ويرد السؤال: لماذا يقيد أهل الذمة أنفسهم بمثل تلك الشُّروط؟ ومصدر الرسالة، حسب "أحكام أهل الذمة" هو عبد الله ابن الإمام أحمد بن حنبل، الذي ينسبها بدوره إلى أهل العلم عن أهل الجزيرة. الرسالة طويلة، وقد وضع ابن تيمية، على ضوئها، واحد وعشرين شرطاً. وننقلها حرفياً من (مسألة في الكناس 134-136): 1- أن لا يتخذوا من مدائن الإسلام ديراً ولا كنيسة ولا قُلية (قلاية الراهب)، ولا صومعة لراهب، ولا يجددوا ما خرب منها. 2- ولا يمنعوا كنائسهم التي عاهدوا عليها أن ينزلها المسلمون ثلاثة أيام، يطعومهم ويؤوهم. 3- ولا يظهروا شركاً ولاريبة لأهل الإسلام. 4- ولا يعلوا على المسلمين في البنيان.5-ولا يعلموا أولادهم القرآن. 6-ولا يركبوا الخيل ولا البغال، بل يركبوا الحمير بالكُف (غطاء على ظهر الحمار وليس بسرج) عرضاً من غير زينة ولا قيمة، ويركبون أفخاذهم مثنية. 7- ولا يظهروا على عورات المسلمين. 8- ويتجنبوا أواسط الطرق، توسعة للمسلمين. 9- ولا ينقشوا خواتمهم بالعربية.10-وأن يجذَّوا مقادم رؤوسهم. 11- وأن يلزموا زيهم حيث كانوا. 12- ولا يستخدمون مسلماً في الحمام، ولا في الأعمال الباقية. 13-ولا يتسموا بأسماء المسلمين، ولا يتكنوا بكناهم، ولا يتلقبوا بألقابهم. 14- ولا يركبون سفينة نوتيها مسلم. 15-ولا يشترون رقيقاً مما سباه مسلم. 16-ولا يشترون شيئاً مما خرجت عليه سهام المسلمين. 17-ولا يبيعون الخمور. 18-ومَنْ زنى منهم بمسلمة قُتل. 19-ولا يلبسون عمامة صافية، بل يلبس النصراني العمامة الزرقاء عشرة أذرع، من غير زينة لها ولا قيمة. 20- ولايشتركون مع المسلمين في تجارة، ولا بيع، ولاشراء. 21- ولايخدمون الملوك، ولا الأمراء، فيما يُجري أميرهم على المسلمين من كتابة، أو أمانة، أو وكالة، أو غير ذلك. كذلك وردت، مع بعض التغيير والتقديم والتأخير، في "أحكام أهل الذمة" و"تحرير الوسيلة". وعندما تسأل عن مصدر هذه الشروط يجيبك ابن قيم الجوزية وغيره بالقول: "وشهرة هذه الشروط تُغني عن إسنادها، فإن الأئمة تلقوها بالقبول"(أحكام أهل الذمة 2ص663). لكن يعود ابن قيم ويعتبر رسالة نصارى الجزيرة إلى عبد بن غَنيم هي الأصل.

وجاء في المسألة العاشرة من "شرائط أهل الذمة": يكره السلام على الذمي ابتداءً، وقيل يُحرم، وهو أحوط. ولو بدأ الذمي بالسلام ينبغي لأن يقتصر في الجواب على قولك (عليك). وينبغي أن يقول عند ملاقاتهم: السلام على مَنْ أتبع الهدى، ويستحب أن يضطرهم إلى أضيق الطرق"(تحرير الوسيلة 2ص453). فكيف سيعش هؤلاء بين وسط لا يرد التحية عليهم، ويضطرهم إلى أضيق الطرق والأرصفة؟

ترددت عبارة "الشُّروط العُمريَة" في اعترافات الجماعات السلفية، وأنهم يقاتلون من أجل تطبيقها في أهل الكتاب. وتطبيقها بحد ذاته يمحو الرابطة الإنسانية بين البشر على اختلاف دياناتهم واعتقاداتهم. واختلاف الأديان، قبل كل شيء، إرادة إلهية، وردت واضحة في القرآن الكريم. فمن غير آية "لا إكراه في الدين"، ورد في حكمة الاختلاف: "لكل جعلنا منكم شِرعة ومِنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة"(المائدة 48). و "ما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من رَبك لقضى بينهم فيما فيه يختلفون"(يونس 20). و"ولو شاء ربك لجعل الناس أُمةً واحدة ولا يزالون مختلفين"( هود 118). هذا ما يخص حكمة الاختلاف، وما يراد من الشُّروط العُمريَة هو مخالفة بل منازعة هذه الحكمة. كذلك كيف يُراد للشُّروط العُمريَة التطبيق فيمَنْ قال القرآن فيهم: "ولتجدن أقربهم مودَّة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسّيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون"(المائدة 82).

تبدو رواية الشُّروط العُمرية واحد من ملفقات الأحداث، وأكثر من هذا نسبتها إلى ضحيتها، مثلها مثل الاعتراف بالإكراه، أو تزييف الاعتراف. فماذا يبقى من إنسانية المسلم إذا حُرم عليه تبادل السلام مع الآخر، وتهنئته بعيده أو فرحه، وتعزيته بحزنه. لماذا الشدة والعسر بالدين إلى حد يُعد التضييق على الآخرين في الطريق ثواباً. لقد وصل حد القسوة، والبعد عن فسحة الدين، إلى الإفتاء بما هو هائل القسوة. قال الفقيه محمد الأمين بن محمد الجنكي الشنقيطي في تفسيره: "لو وجد مضطراً آدمياً غير معصوم كالحربي والمرتد فله قتله، والأكل منه عند الشافعية، وبه قال القاضي من الحنابلة. واحتجوا بأنه لا حرمة له، فهو بمنزلة السباع. والله أعلم تعالى"(أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن 1ص 115).

كيف لنا تخيل الحياة لو عُممت مثل هذه الفتوى، وتحققت شُّروط ابن تيمية والخميني، ومثلما يريدها السلفيون؟ وماذا لو أعلنت الدول الأخرى، التي يحتمي في ظل علمانيتها حتى السلفيين سياسياً واقتصادياً، المعاملة بالمثل والتخلي عن علمانيتها السياسية، وتخترع شُّروطها العُمرية؟ ما أتوقعه أن الكراهية ستعم، والحروب الدينية ستقوم، والدين سينُتزع من القلوب.

Link to comment
Share on other sites

Guest Mustefser

حكمة القرآن.. حَمّال ذو وجوه

GMT 12:15:00 2005 الإثنين 11 يوليو

رشيد الخيُّون

 

 

 

--------------------------------------------------------------------------------

 

 

لعل من إعجاز القرآن الكريم أنه "حَمّال ذو وجوه." ومن حكمة الله أن لا يتسلط بشر على بشر باسمه، أو عن طريق رسالاته. بمعنى أنه لا ينزل إلى مستوى السياسة اليومية والدساتير الاجتماعية، التي ليس لها غير وجه واحد، يصوغه الناس حسب متطلبات أزمنتهم. وليس في القرآن ككتاب سماوي غير خطوط عامة، واستنفذ الكثير منها في الفترة النبوية، ذلك لتثبيت الدعوة الدينية. فالوحي كان متواصلاً عبر النبي، فما أن يهبط بأمر ما إلا وردفه بأمر آخر عند الحاجة، ينسخ الأول لانتهاء ضرورته، حتى ظهر علم الناسخ والمنسوخ، الذي أعترف به حزب ورفضه آخر.

ورد في الحديث النبوي: "القرآن ذو وجوه فاحملوه على أحسن وجوهه"(شهري، ميزان الحكمة، الدار الإسلامية 8ص102). وقال الإمام علي بن أبي طالب لعبد الله بن عباس، وهو يعزم لمناظرة الخوارج: "لا تخاصمهم بالقرآن، فإن القرآن حمّال ذو وجوه، تقول ويقولون. ولكن حاججهم بالسُنَّة فإنهم لن يجدوا عنها محيصاً"(نهج البلاغة، شرح محمد عبده، وصية رقم 315 ص622). ويشرح ابن أبي الحديد هذه الوصية بالقول: "ذلك أن القرآن كثير الاشتباه، فيه مواضع يُظن في الظاهر أنها متناقضة متنافية"(شرح نهج البلاغة، دار مكتبة الحياة 5ص250).

ما يوصي به اليوم المتشددون يتعارض تماماً مع طبيعة القرآن، وحكمة الله في اختلاف البشر. فقبل نـزول القرآن ظهرت قوانين وشرائع، أُعطيت سمة دينية، لكنها نسبت صراحة لمصلحين ولملوك مع تغليفها بمسحة مقدسة، وظلت البشرية تتعامل بها بعد تعديلها من جيل إلى آخر. وقد ورد العديد منها في الكتب السماوية. وحتى يدوم التأثير الديني كضمير مؤثر لا بد له التعالي على المتغير اليومي، وأعني به السياسة والشرع المدني. وما سعي رجال دين من فرض الدين على السياسة ما هو إلا تقنين للدين، وإضعاف هيمنته الروحية في قلوب الناس. ودولة طالبان أفصح دليل على ذلك. ولذلك تحزب رجال الدين وعلماؤه إلى حزبين، حزب يرى من مصلحة قدسية الدين كمؤثر روحي أن ينأى عن السياسة اليومية، وحزب أراد له الهيمنة لتكون منه دكتاتورية دينية، وهي على حد عبار آية الله البهادلي، حسب مقابلة أجرتها معه مؤخراً مجلة "النور" الإسلامية بلندن، أنها من أقسى الدكتاتوريات.

كان الحديث أو وصية الإمام علي من العمق والفلسفة في تشخيص هذه الظاهرة. هذا ما خص النص القرآني، فما بالك في التفسير والتأويل؟ وعلى هذه الخلفية من حكمة التناقض والتعارض في النص ، وما تبعه من اختلاف المفسرين كثرت المذاهب الفقهية، وزادت الفِرق الإسلامية، وهي اليوم إن عُدت بدقة لكانت المئات. وتجد الاختلاف ليس بين المذاهب الكبرى بل بين فقهاء المذهب الواحد. ولمزامنة الزمن ومعايشة حوادثه ظهر الاجتهاد وظهر القياس. وقبل هذا انقسم العلماء بين أهل رواية وبين أهل رأي. فكيف يُراد لهذا التعارض وهذا التناقض أن يكون دستورا،ً وتنشأ على أساسه دولة إسلامية معافاة من الظلم، وارفة العدالة؟ ولم تأت فكرة المهدي أو المنقذ المنتظر في الأديان والمذاهب كافة إلا للأمل في الدولة السعيدة، التي دعتها الديانة البوذية عصباً في فلسفتها. فلو كان من حكمة الله توحيد البشر بشريعة ودستور لسبقت إلى التطبيق، وتخلص البشر من حكم البشر أنفسهم!

بالأمس، بعد ضرب وسط لندن بالمتفجرات، احتج مؤيدو التفجيرات بالآية "وأعدوا لهم ما استطعتم من قُوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدوا الله وعدوَّكم"(الأنفال 61). وهم معذرون لأنهم يلتزمون نصاً قرآنياً، والعدو بالنسبة إليهم مَنْ لا يحكم بالشريعة، ومَنْ لم يستجب لدعوتهم وأفكارهم. أما تكملة الآية "وإن جنحوا للسلم فاجنح لها" فتعني الجنح إلى السلم بعد النزول عند شروطهم، التي هي بالتالي شروط الله ونبيه. بالتأكيد لا يمكن فصل سورتي "التوبة" و"الأنفال" وكل الآيات المحرضة على الشدة والقوة، والمتعارضة مع روح التسامح عن القرآن. لكن ألا يجدر أن نأخذها بزمنيتها، ونأخذ ناسخها ومنسوخها بنظر الاعتبار؟ كذلك التواقون إلى السلم، والتعايش الدولي مع الأديان الأخرى يرفعون آية "لا إكراه في الدين" شعاراً في محاولاتهم في التقريب والتآخي بين أديان الأرض، فهي بالتالي من الله كافة. فلو وقف الطرفان، أهل الفرض بإرهاب الآخر وأهل لا إكراه في الدين، في مجلس جدل أو مناظرة، أترى يكسب أحدهما الجولة، وهما يستندان إلى قرآن واحد؟ لا اعتقد ذلك. وهنا تأتي حكمة فلسفة القول: "القرآن حمَّال ذو وجوه". وبالمناسبة احتج أحد المروجين من العروبيين للإرهاب بالعراق أن القرآن قال "ترهبون"، فماذا لو سميت (المقاومة الباسلة)، على حد قوله بالعراق إرهاب.

ولو جادلت قاتلي الأسرى، أو المختطفين، بالعراق لقالوا لك نحن نريد تنفيذ شرع الله "لا حكم إلا لله". وأتوك بالآية التالية حجة على ما يسُنَّون: "ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض"(الأنفال 67). ويأتوك بتفسير جلال الدين السيوطي وجلال الدين المحلي لها: "للمبالغة في قتل الكفار" (تفسير الجلالين للآية). والكافر عندهم هو كل مَنْ ليس مسلماً، وكل مَنْ ليس على مذهبهم. فكم قتل هؤلاء من مختطف مسلم شيعي. وبحد الردة قتلوا السفير المصري ببغداد. أما المسلمون من أهل التسامح فيأتوك بسورة الكافرين كاملة، لأنها غاية في اللاإكراه في الدين، وغاية في احترام الآخر: "قل يا أيها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون، ولا أنتم عابدون ما أعبد، ولا أنا عابد ما عبدتم، ولا أنتم عابدون ما أعبد، لكم دينكم ولي دينِ".

أقول: لو كان القرآن غير حمّال ذي وجوه لما ظهرت مذاهب وفرق في الإسلام الواحد، وصل الأمر بينها إلى غزوات واجتياحات وإبادات. فكيف يُراد لنص حُكم بقدرة قائله بهذا التعارض أن يكون دستوراً ومنهجاً سياسياً صالحاً لكل زمان ومكان. أليس هذه الدعوة بحد ذاتها نحر للدين، وثقل على البشر بما لا طاقة لهم فيه. فمن حق الذين يدعون إلى تعدد الزوجات أن يستندوا في تشريعهم إلى الآية: "وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع"(النساء 30). ويشرعون دون النظر إلى أن السبب هو حفظ أموال اليتامى، لا للمتعة وإشهار الجاه وكثرة البنين. والمشرعون لم ينظروا في الآية: "فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة". أما الرافضون لتعدد الزوجات، مثل الشيخ محمد عبده، فيستندون إلى الآية "ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم"(النساء 129). إذاً مَنْ من الطرفين هو الأحق في تطبيق القرآن أو الشريعة المستندة إليه؟ أليس أنها حكمة قادر أن لا يجعل الله بشر يتسلط على بشر باسمه؟

كذلك يستند القائلون بقوامة الرجال، وحصتهم المضاعفة من الإرث بقوله: "يُوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين"( النساء 11). بينما يستند الرافضون لهذه القسمة إلى أنها مجرد وصية وليست حكماً "يوصيكم الله". والوصية غير الأمر. ويرد الطرف الآخر أن الآية تكررت في موقع آخر من السورة نفسها بلا وصية، أي وردت مثل أمر في (النساء 176).

وربما يتوقف البعض عند الآية لينظر في تحريمات الشراب والطعام الأخرى "قل لا أجد في ما أوحى إليَّ مُحرماً على طاعم يَطعمه إلا أن يكون ميتةً أو دماً مسفُحاً أو لحمَ خِنزير"(الأنعام 145) أنها شاملة، وناسخة لكل ما عداها من التحريمات. فيجد في اجتناب الخمر ماهو أقل من التحريم، ومن المستثنيات في الآية الآنفة. كما ورد في الآيات: "يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون" (المائدة 90). و"إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله"(المائدة 91). و"يسئلونك عن الخمر والميسر قل فيهما أثم كبيرٌ ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما"(البقرة 219). و"يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سُكارى حتى تعلموا ما تقولون"(النساء 43).

وقد وردت اختلافات بين الفقهاء حول درجة السُكر، هل السكران مَنْ لا يفرق بين السماء والأرض، أو لا يميز بين ثيابه مثلاً. وظل هذا النقاش حتى أن بعض الفقهاء أجازوا النبيذ ولهم حججهم في ذلك. ولعدم وضوح الأمر طلب الخليفة عمر بن الخطاب توضيحاً صريحاً في أمر الخمر. قال: "أللهم بَيَّن لنا في الخمر بياناً شفاءً"(الكتب الستة، سنن أبي داوود، باب الأشربة). فنزلت الآية "لا تقربوا الصلاة وأنتم سُكارى" (المصدر نفسه). وسمعت بعضهم يقول أن ما حُرم لم يرد في الجنة كطعام، فلم يرد لحم الخنزير، ولا الميتة ولا الدم. لكن ورد الخمر في أكثر من آية كمتعة من متع الحنة. والقرآن لم يتأخر في ذكر ما جاء في قصة يوسف "أما أحدكما فيسقي رَبَه خمراً وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه"(يوسف 41). وامتدح القرآن النخيل والأعناب لأن منها الرزق والسكر وهو الخمر عند المفسرين: قال: "ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سَكراً ورزقاً حسناً"(النحل 67). أليس هذه النصوص لو يُراد لها أن تؤخذ كدستور وشريعة ستكون محط نقاش وجدل، والمفروض أن يُنأى بالقرآن عن الجدل والمناظرة، فهو كلام الله المقدس. لكن مَنْ يقبل أن تفرض عليه شريعة، ويخضع لدستور لا يجادله ويحاور فقراته، ويقترح الإزادة والنقصان فيها؟

هناك عدد كبير من الآيات التي تحفظ للقرآن منزلته كوصاية ضمير على الناس، لا كقانون يهبط إلى مستوى التنفيذ، وتشوهه ممارسات الرجال. ليس في النصوص التالية ما يسمح في السعاية إلى التكفير، أو الدعوة إلى حكومة دينية. وبالتالي ما يتحقق هو فرض دين الرجال لا دين الله. منها: "وإن تولوا فإنما عليك البلاغ"(آل عمران 20). "فاعرض عنهم وعظهم"(النساء 63). "ومَنْ تولى فما أرسلناك عليهم حفيظاً"(النساء 80). "فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً"(النساء 90). "ما على الرسول إلا البلاغ"(المائدة 99). "قل لستُ عليكم بوكيل"(الأنعام 66). "فمَنْ أبصر فلنفسه ومَنْ عميَ فعليها وما أنا عليكم بحفيظ"(الأنعام 104). "وما جعلناك عليهم حفيظاً وما أنت عليهم بوكيل"(الأنعام 107). "إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لستَ منهم في شيءٍ إنما أمرهم إلى الله"(الأنعام 159). "وإن كذبوك فقل لي عَملي ولكم عملكم"(يونس 41). "أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين"(يونس 99). "فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومَنْ ضل فإنما يَضل عليها وما أما عليكم بوكيل"(يونس 108). (وأصبر حتى يحكم الله بيننا"(يونس 109). "إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل"(هود 12). "فإنما عليك البلاغ وعلينا الحِساب"(الرعد 40). "ربكم أعلم بكم أن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم وما أرسلناك عليهم وكيلاً"(الإسراء 54). "قل مَنْ كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مَداً"(مريم 75). "أدفع بالتي هي أحسن"(المؤمنون 96). "وأن أتلوا القرآن، فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومَنْ ضل فقل إنما أنا من المنذرين"(النمل 92). "ومَنْ كفر فلا يحزنك كفره"(لقمان 23). "فأعبدوا ما شئتم من دونه"(الزمر 15). "فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعملون"(الزخرف 89). "وما أنت عليهم بجبار"(ق 45).

يجادل مَنْ يرفض تطبيق الشريعة، وإقامة دولة دينية، وهو يستند إلى هذه النصوص وغيرها، وهي كما يتبن واضحة لا تقبل التأويل والتفسير، أن الدين ضمير لا دولة وسلطة، وتعني "الدين لله والوطن للجميع". لكن بما أن القرآن حمّال ذا وجوه هناك من النصوص الكثيرة التي تسند أصحاب الحاكمية أو الحكومة الإسلامية أيضاً. بل تسند رأي مَنْ يرى أن الأرض كافة هي أرض الله، ويجب أن تكون تحت حكم المسلمين! وبالتالي يجب أن يطبق فيها شرع الله، ويعني الشريعة التي يؤمن بها هو لا غيره من أهل الأديان الأخرى.

بعد هذا كيف لنا فهم تطبيق الشريعة، والقرآن يعطي الحق للرافض تطبيقها ولمؤيدها والداعي إليها معاً؟ وكيف تُمارس الشريعة، وهناك إمكانية هائلة في النص القرآني أن لا يتحول الدين إلى حكومة سياسية. وإن هناك حكمة إلهية في اختلاف البشر، أشرنا إليها في أكثر من مقال. فهل جعل الله الأرض للمسلمين من دون غيرهم فحسب؟ وإن جعلها للمسلمين فهل هي للسُنَّة منهم أم للشيعة؟ وإن جُعلت لأهل السُنَّة فهل ستحكم بمذهب الشافعي أم الحنفي أم الحنبلي أم المالكي؟ ومن أين أتى الفقهاء بحكم الردة، والقرآن في النصوص الآنفة يبشر بحرية الرأي والفكر؟ وكيف أصبح الختان من الشرع، وليس له أصل في القرآن؟ بل وهناك مذاهب ترى أن ممارسته غير واجبة، بينما مذاهب أخرى تفرضه على البنات أيضاً. لكل ما تقدم سيطعن الدين طعنة نجلاء من أهله عندما يهبطون به من المعلى المقدس إلى مستوى السلطة. فمن حكمة أن لا يكون الدين بيد البشر سيفاً بتاراً، بل يبقى في متناول الجميع "حمَّال ذو وجوه تقول فيقولون". أما السياسة والحكومة فشأنها آخر.

 

r_alkhayoun@hotmail.com

Link to comment
Share on other sites

Join the conversation

You can post now and register later. If you have an account, sign in now to post with your account.

Guest
Reply to this topic...

×   Pasted as rich text.   Paste as plain text instead

  Only 75 emoji are allowed.

×   Your link has been automatically embedded.   Display as a link instead

×   Your previous content has been restored.   Clear editor

×   You cannot paste images directly. Upload or insert images from URL.

Loading...
×
×
  • Create New...